أنا ألمّح هنا، إلى أنّ الأدب بالنسبة للمتخصصين، لا يعدو أن يكون عملاً يتلقون مقابله أجرة شهرية، وليس كلّ من يدرٍّس الأدب ويدرسه يعرف حاجته الحقيقية إليه. وإذا أضفنا إلى هذه العينة، مواقف شرائح المجتمع الأخرى، قد نصل إلى نتيجة مزعجة.
إلى اليوم، ما زلنا لا نعرف حاجتنا الحقيقية إلى الأدب، وأمام تحوّل نماذج التأثير الاجتماعية التقليدية مثل المعلّم، الأديب، المفكّر، وظهور نماذج جديدة: الإعلامي، الرياضي، المطرب، النجم السينمائي.. أصبح من الصعب الحديث عن حضور مضيء للأدب.
إنّ المجتمع يساير تحولات النماذج الاجتماعية، بتأثير مباشر من التحولات الاقتصادية والسياسية التي فرضتها منظومة سياسية، اتجهت نحو قلب منظومة القيم، والاعتداء على القيم الفنية والجمالية والإنسانية لصالح القيم التي ينتجها السياسي، أو رجل المال، أو الفقيه. وكلّهم أصبح يفرض نمذجة اجتماعية جديدة للمجتمع.
كان الأديب، إلى زمن ما، يعاني رقابة سياسية شديدة، وكان تحت عيون السلطة، تراقب حركة الكلمات داخل نصوصه، فقد يتعرض للتعذيب والسجن بسبب جملة تلفظت بها شخصيته الخيالية. وعلى الرغم من صعوبة التجربة، إلاّ أنّها تكشف أنّ الأنظمة السياسية في مرحلة ما كانت واعية لأهمية الأدب، وخطورته. بل كانت الرقابة تقرأ وتساهم بطريقة أو بأخرى في الترويج للكتب، وتحرّض من حيث لا تدري على القراءة. أليست الرقابة والحظر أهم الوسائل التي روّجت للأدب عبر تاريخه الطويل؟ يكفي أن يزج بأديب ما في الأقبية السفلية لوزارات الداخلية ليعلو نجمه، وتنفذ كل نسخ كتبه.
هذا النوع من الرقابة المُتعلمة لم يعد موجوداً اليوم، فلم نسمع بأديب دخل السجون، إلا في ما ندر. لقد غيّر الخطر مواقعه، وأصبح الفايسبوك أحد تلك القلاع الجديدة للخطر. الرقابة اليوم أمية لا تقرأ، ولم تعد مكترثة بجدوى الأدب. بل إن كتابة جملة فايسبوكية لهي أهم وأثقل وزناً من ركام من الصفحات التي تروي سيرة متخيلة لكائن حِبري ما.
صعب أن تُقنع الطالب الجامعي، الذي ينتمي إلى الأقسام الأدبية، بجدوى قراءة الأدب؛ لأسباب عديدة، معظمها نفسي. طالب الأدب يعتبر نفسه مُعاقبا بمجرد أنه ينتمي إلى القسم الأدبي. فسنوات دراسته يقضيها محمّلا بعقدة الأدب، وهو الذي ينظر إلى تخصصه بدونية كبيرة. صار الطالب اليوم يخجل أن يفتح رواية أو ديوانا شعريا في طابور المطعم الجامعي أو داخل الحافلة الجامعية. ينتابه إحساس أنّ كل العيون تترصده وتسخر منه. هناك طلبة أخبروني أنهم اضطروا للكذب على زملائهم حين كانوا يسألونهم عن تخصصهم. كيف يمكن لهذا الطالب أن يعقد علاقات طبيعية مع الأدب؟ سؤال آخر: كيف يتم تدريس الأدب؟ بأي أسلوب؟ وبأيّ منهجية؟ صعب أن يُدرّس الأدب من لا يقرأه ولا يتذوقه. يشبه الوضع ببارونات المخدرات، حيث قاعدتهم الذهبية: المخدرات مدمرة للإنسان، ومع ذلك يروجون لها. يُدرّس الأدب بدون حسّ أدبي، ودون جمالية مغرية للطلبة. كأنه لا فرق بين تحليل قصيدة أو تشريح جثة فأرة مخبرية. لا نستغرب إذن، أن أساتذة الأدب قد يشكلون خطرا على الأدب الذي يُدرّسونه.
منذ سنوات، خرج وزير أول للحكومة الجزائرية ينتقص من أهمية العلوم الإنسانية، واستهدف في كلامه الشعر تحديدا. صحيح أنّه لم يكن في درجة وعي أفلاطون بخطورة الشعر على مستقبل جمهوريته، بل كان وعيا ضحلا، قليل الشكيمة، منحازا لرؤية ضيقة وسطحية جدا لأهمية العلوم الإنسانية، ولأهمية الأدب تحديدا. من هنا، أي من مثل هذه المواقف، يزداد حيز الوعي بالأدب يتآكل أكثر، وينكمش بشكل فظيع. والواقع يبرهن على هذا التآكل.
ليت الجميع يقرأ بانتباه شديد رواية
"هيا نشترِ شاعراً" للروائي البرتغالي أفونسو كروش؟ الرواية باقتصادها التخييلي، طرحت هذا الموضوع ضمن مقاربة سردية ذكية وعميقة، لم تخل من السخرية اللامعة. يتخيل الروائي عالما قوامه الحسابات، والأرقام، والمعدلات الرياضية، وأسهم البرصات... إلخ شخصيات لا تحمل أسماء، بل تحمل أرقاما، حيث صارت هويتها رقمية. المشاعر تُدرك من خلال النسب المئوية لتدفق الأدريانين في الدم، فهم لا يؤمنون بكيمياء العواطف، ولا بالانفعالات. في عالم كهذا، لا مكان للفن، ولا للجمال، ولا للأدب... فقط عالم مبني على منطق رياضي دقيق جدا. هنا، استغنى المجتمع عن الشعراء، لكن يمكن الحصول عليهم في متاجر متخصصة.
تخيل الروائي محلات تعرض سلعها من الشعراء، من حساسيات مختلفة، ويبقى أنّ الشاعر الأغلى هو الذي يحمل نسبة كبيرة من النزعة التدميرية، وهذا النوع من الشعراء لا يشتريهم أحد. قررت بطلة الرواية أن تشتري شاعرا، فطلبت من والدها أن يُرافقها إلى المحل حيث يباع الشعراء. وهناك اشترت شاعرا، وأخذته إلى البيت سعيدة بهذا الكائن الغريب. في البيت، اكتشف الجميع أنّ الشاعر كائن غريب، بحركاته، وبصمته، وبطريقة كلامه، والأغرب هو أنه يقضي ساعات طويلة وهو يحدِّق في الفراغ. التأمل الشعري أو الصوفي بالنسبة لهذه العائلة هو تحديق في الفراغ! أليس هذا هو الموقف الاجتماعي اليوم من الأدب، بأنه تحديق في الفراغ؟
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها