الجمعة 2021/01/22

آخر تحديث: 13:37 (بيروت)

ربع سكان العالم بلا لقاحات حتى نهاية 2021..احزروا أين؟!

الجمعة 2021/01/22
ربع سكان العالم بلا لقاحات حتى نهاية 2021..احزروا أين؟!
ممرضة تصلّي في قسم العناية الفائقة بمستشفى رفيق الحريري الحكومي (غيتي)
increase حجم الخط decrease
نادراً ما تبدو السخرية في عالمنا أكثر تجسيداً مما هي في أيامنا الحالية. ففيما يتابع ملايين الأفارقة والجنوبيين على شاشاتهم كيف يُعبّأ السائل الشافي في أجزاء أخرى من العالم في آلاف القوارير الصغيرة، ويُشحَن، وتحمله الطائرات، ويُحقن في أذرع بيضاء.. يعرف هؤلاء المشاهدون أنهم قد لا يتمكنون من التمتّع بامتياز اللقاح المحقون قبل سنة على الأقل، إذا كانوا ما زالوا على قيد الحياة بحلول ذلك الوقت.

الحديث هنا عن لقاح كورونا الذي يهدف إلى قلب معادلة مكافحة الوباء. اللقاح الأول والوحيد المجاز من طرف منظمة الصحة العالمية، الذي طوّرته شركة فايزر الأميركية وشركة بيونتيك الألمانية، يوفّر الآن الحماية ضد الفيروس القاتل لملايين الأشخاص (بشرط أن يكونوا من بين 15% من سكان العالم الذين يعيشون في الدول الغنية). وفقاً لبحث أجرته كلية "جونز هوبكنز بلومبيرج للصحة العامة" في ولاية ميريلاند الأميركية، طلبت الحكومات في الدول الصناعية بالفعل ما مجموعه 7.5 مليارات جرعة من اللقاح (أي أكثر من نصف مجموع اللقاحات الممكن إنتاجها في أفضل السيناريوهات في الأشهر المقبلة). هذا يعني أن دولاً مثل ألمانيا أو الدنمارك ستكون قادرة على تطعيم سكانها بالكامل ثلاث مرات على الأقل خلال العام الحالي.

سيتعيَّن على بقية سكّان العالم انتظار الفرج. في أفريقيا، حيث يعيش 1.3 مليار شخص في الوقت الحالي، لن تأتي الإبر الشافية قبل منتصف العام الجاري على أقرب تقدير. بحلول تشرين الأول/أكتوبر، يتوقع باحثو جامعة جونز هوبكنز أن يجري تطعيم ما يقارب 60% من الأفارقة، وهو الشرط الأساس لمناعة القطيع لوقف انتشار الفيروس. مع ذلك، من المرجح أن أكثر من ربع سكان العالم سيظلون بلا حماية، حتى نهاية العام 2021. أين يعيش هذا الجزء من البشرية؟ ثلاثة تخمينات لا رابع لها.

لمرة، واحدة على الأقل، لا علاقة لأفريقيا بانتشار الفيروس، فقد جُرَّ إليها قادماً من أوروبا، دوناً من بقية الجغرافيا الأرضية، بعكس القول الرائج حول القارة السوداء كمنبع أزمات وحروب وأمراض. لكن، بالطبع، لا أحد في أوروبا يشعر بأي نوع من المسؤولية عن حقيقة أن حوالي 2.5 مليون شخص في إفريقيا أصيبوا بهذا المرض وتوفّي ما لا يقل عن 60 ألف شخص. يتوقع الخبراء تزايد احتمالية انتشار الأوبئة في العقود المقبلة، طالما ظلّ نمط الاستهلاك والتجارة العابرة للحدود على وضعهما الحالي. هذا جانب آخر من عواقب سيطرة رأس المال والأرباح على تفكير الصانعين والتجّار، يضاف إلى عاقبة الجُرم الأخلاقي الذي سيثقل دين الدول الغنية بحق مَن لم يختاروا العيش في أوضاع أقل رفاهية وأكثر خطراً.

من ناحية أخرى، طُوِّر اللقاح في وقت قياسي. أقل من عام. لكن بينما انتشر الفيروس عبر الأفراد والدولة ليشمل البشرية جمعاء، انحصرت الاستجابة في حدود الدول القومية والشركات الخاصة، وانتعشت سوق مربحة للغاية لتجارة اللقاحات، في انتكاسة أخرى لوعد العولمة بتشارُك العالم مصائره، ونكوص إضافي لكل وعود التعايش المشترك والتضامن العالمي في ظلّ خطر يحيق بالجميع. مع ذلك، فإن فايزر وبيونتيك، وأمثالهما لم يستفيدوا فقط من مليارات الدولارات من الإعانات الحكومية، بل تعتمد أبحاثهم على أساس المعرفة العلمية المتراكمة على مدى مئات السنين، والتي استولت عليها تلك الشركات في انقلاب خفي باعتبارها ملكية خاصة مُفترَضة. مسلَّحة ببراءات الاختراع وذخيرة وافرة من جماعات الضغط، تدّعي شركات الأدوية أن لا تقدُّم بحثياً يمكن إحرازه من دون حماية تطوراتهم واستثماراتهم الخاصة المزعومة. افتراضٌ وقح وإصرار مبني على غير حقّ. كما لو أن ذرة واحدة من البراعة والمعرفة البشرية ستضيع إذا اضطررت فايزر وبيونتيك إلى إعلان إفلاسهما غداً.

مبادرة من حكومتي الهند وجنوب إفريقيا لرفع براءات الاختراع مؤقتاً عن اللقاحات الجديدة حتى تتمكن الشركات الأخرى أيضاً من إنتاج الأمصال (بتكلفة أقل وبكميات أكبر)، أخفقت مؤخراً أمام منظمة التجارة العالمية (WTO) بسبب "فيتو" الدول الصناعية، الدول نفسها صاحبة النصيب الأكبر من حصص اللقاحات وأولوية الحصول عليها. ما تبريرهم؟ قالوا إن المساس بقانون براءات الاختراع يعرّض التقدم العلمي للخطر مستقبلاً. لكن حقيقة أن الإبقاء عليه كفيل بتعريض حياة الآلاف من الناس للخطر، هو أمر مقبول ولا يمثّل أدنى مشكلة. حقوق حماية براءات الاختراع فوق حقوق الإنسان.

الجميع يريد أن ينتهي الوباء قريباً، لكن من المؤكد أنه مع كل إعلان عن لقاح جديد فعّال يكون الفرح به أكبر في البلدان الغنية منه في بلدان الجنوب. لماذا؟ لأننا نعيش في عالم يغيب عنه العدل والإنصاف، فالدول الغنية هي أول المستفيدين، ولديها حق الوصول إلى اللقاح بعقود ثنائية وحصرية مع  مصنّعي الأدوية. الصورة تتضح أكثر  فأكثر الآن، مع إعلان تيدروس غيبريسوس، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، الإثنين الماضي، من وقوف العالم على "شفير إخفاق أخلاقي كارثي" إن تركت الدول الغنية نظيرتها من الدول الأكثر فقراً تعاني من نقص اللقاحات المضادة لفيروس كورونا فيما تستحوذ هي على حصة الأسد منها. بنهاية العام الجاري، ستكون الدول المتقدّمة قد استكملت تطعيم نحو 60-70% من سكانها. في المقابل، من المحتمل أن تضطر أجزاء كبيرة من العالم، بما في ذلك جميع البلدان في القارة الأفريقية تقريباً، إلى الانتظار بضع سنوات أخرى قبل أن يتلقى سكّانها اللقاح.

وهذا على الرغم من الحقيقة المعروفة للجميع بأن العواقب غير المباشرة للوباء تهدّد بصورة أكبر سكّان تلك المناطق، لأن الكثير من الناس يعملون ويعيشون بلا أي ضمان اجتماعي. خلال أشهر طويلة مرّت منذ تفشي الوباء، لم يستطع العالم العثور على نظام أو التوافق على قواعد دولية ملزمة تتيح الوصول العالمي المتكافئ إلى اللقاح. إلى الآن، لا بدائل للمسار الوطني لتوزيع اللقاح، ولا وجود كذلك لمؤسسات عالمية لتوزيعه كسلعة عالمية ذات منفعة عامة واستناداً لمبدأ أصيل، أن لكل شخص الحق نفسه في الحماية التي يحتاج إليها. اكتفت الدول الغنية بكلمات تطمينية حول الوصول المتساوي للقاح، وفي الوقت ذاته تجاوزت برنامج "كوفاكس" الذي أرسته منظمة الصحة العالمية بهدف توزيع اللقاح بشكل عادل في جميع أنحاء العالم، حيث قامت هذه الدول بإبرام "اتفاقات ثنائية" مع شركات الأدوية على حساب الدول الفقيرة، الأمر الذي نددت به منظمة الصحة العالمية ودعت إثره الدول الغنية لاحترام التوزيع العادل للقاحات.

توزيع اللقاحات قضية أخلاقية طبعاً، لكن في أوقات الأزمات لا يفكر البشر دائماً بشكل أخلاقي. المقارنة مقبولة وضرورية هنا: ففي حين أُعطيت، حتى الآن، 39 مليون جرعة من لقاح كورونا في ما لا يقل عن 49 من الدول الأعلى دخلاً، حسب بيانات منظمة الصحة العالمية، هناك إحدى الدول الأقل دخلاً حصلت على 25 جرعة فقط. "ليس 25 مليونا، ليس 25 ألفاً، فقط 25"، قالها غيبريسوس بأسف وقلة حيلة حقيقيتين. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها