السبت 2021/01/16

آخر تحديث: 13:08 (بيروت)

"رئيس البلدية": رام الله بعيون أميركية

السبت 2021/01/16
"رئيس البلدية": رام الله بعيون أميركية
رئيس البلدية
increase حجم الخط decrease
على مدى عامين يتتبع المخرج الأميركي، ديفيد أوزيد، تحركات رئيس بلدية مدينة رام الله، موسى حديد، خلال ساعات العمل وفي حياته الخاصة. كيف يمكن أن تدير مدينة حين لا يكون لديك بلد؟ كان هذا السؤال الذي انطلق منه الفيلم الوثائقي "رئيس البلدية"(2020)، لكن ما كان يفترض به أن يكون فيلماً عن الإدارة المحلية تحت ظلال الاحتلال، سرعان ما أخذ منحى آخر، مع إعلان ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس واشتعال الاحتجاجات في الضفة. 

تبدأ المشاهد الأولى من الفيلم، بافتتاحية هوليوودية. المارة يلوحون بالتحية لرئيس البلدية المحبوب، وهو يتجول راجلاً بخفة في شوارع المدينة، وتلتقط الكاميرا بعض معالم رام الله، شجرة عيد الميلاد في الساحة العامة، صور لميكي ماوس مرسومة على الجدران، المحلات التجارية وشوارعها العامرة بالحركة، لافتات مكتوبة بالإنكليزية، فوج سياحي، تمثال نيلسون مانديلا، كل هذا مع موسيقى كلاسيكية احتفالية في الخلفية وألحان الكريسماس. يدخل حديد بملابسه شديدة الأناقة إلى مكتبه الواسع والبراق، ويجلس على كرسيه بينما ترتفع الستائر الكهربائية عن الشبابيك الموزعة بطول الحائط من ورائه، بحركة تشي بفخامة بنكيّة. الخليط من أجواء أفلام الكريسماس وأفلام مديري وول ستريت، أو ما يطلق عليه المخرج أجواء "العصر الذهبي لهوليوود"، ما يوحي للمُشاهد الغربي بكثير من الألفة، رام الله لا تختلف كثيراً عن أي مدينة أميركية، ويشير النص الافتتاحي للفيلم أيضاً إلى مسيحية رام الله تاريخياً، ربما للغرض نفسه. 


لكن تلك الألفة ليست سوى فخ، دقائق قليلة كافية لتوريط المشاهد، قبل أن يجد نفسه في خضم المفارقات اللاحقة. لا يلتزم الفيلم بسردية أو حبكة، يكتفي بتتبع خط زمني في اتجاه واحد، لكن بشكل انتقائي، مَشاهد متتابعة لأنشطة رئيس البلدية. اجتماع يناقش فيه حديد مع مساعديه كيفية عمل "براندنغ" لرام الله، شعار بصري يَسهُل التعرف عليه، ثم جولة في مدرسة والحديث عن تجديدها، أحد أهالي المدينة يوقف حديد في الشارع ويصر على أن يدعوه إلى الغذاء معه، وبعد كثير من الإلحاح يقبل، لقاء مع طلاب الماجستير، ومن ثم اجتماع مع مجلس البلدية لترتيب نصب شجرة الميلاد في الساحة، واحتفالية إضاءتها. التفاصيل التي تتم مناقشتها بخصوص برنامج احتفال الميلاد تبدو طبيعة جداً، وهزلية أيضاً بالقدر نفسه، فقط لأنها لا تجري في مدينة طبيعية.

تتكثف تلك الغرائبية، لاحقاً، فبعد إعلان ترامب بخصوص القدس، تقتحم القوات الإسرائيلية رام الله، ويشتعل العنف، ويعقد مجلس البلدية اجتماعاً طارئاً، ووسط أجواء مشحونة، يطرح حديد السؤال على الجميع: هل الاجتياح خطر على شجرة الميلاد؟ بجدية شديدة، يتناقش الجميع في الخيارات المتاحة، هل يجب ترك الشجرة مضاءة أم يجب إطفاؤها، وهل من المقبول الاحتفال في مثل تلك الظروف؟ أعضاء المجلس يعرفون أن الكاميرا تسجل لهم، يتحاشون الإساءة للرئيس الأميركي بشكل مباشر، فيدعوه أحدهم ساخراً، "الأخ ترامب"، ويضحك الجميع. الجدية التي نوقشت بها مسألة الشجرة لا تنفي هزليتها، بل تؤكدها، وتلك الهزلية لا تنبع من تفاهة الأمر، بل من فداحته، فداحة الوضع الاستثنائي للمدينة وكل ما يتعلق بالفلسطينيين.

في اجتماع مع وفد برلماني ألماني، يخبرهم حديد بأبعاد تلك الاستثنائية، إقامة مدافن في المدينة تستلزم تصريحاً إسرائيلياً، واحتاج الأمر 15 عاماً للحصول عليه، محطة للصرف يرفضون منحها تصريحاً لسنوات، القدس على بعد كيلومترات قليلة، لكن معظم سكان المدينة لن يتمكنوا من زيارتها ولو مرة واحدة في حياتهم، المستوطنات تحيط بالمدينة من كل ناحية وتتمدد. يحاول أعضاء الوفد الألماني الضغط لعقد لقاءات إسرائيلية-فلسطينية على مستوى شعبي، لكن رئيس البلدية يرفض، ويخبرهم بأن جندياً عمره لا يتجاوز السادسة عشرة، أجبره على خلع ملابسه تحت تهديد السلاح، "عندما نشعر إننا لا نُعامل كعبيد وهُم أسياد، سنكون مستعدين لفعل كل شيء"، ويضيف بعدها: "عندما يتعلق الأمر بالكرامة، فهذا شيء غير قابل للتفاوض".



ومشهداً بعد آخر، تأسرنا شخصية موسى حديد، بطبعه الهادئ وبشعوره الجاد والبسيط بالمسؤولية مع خفة دم ساحرة. مدير البلدية المنتبه للتفاصيل الدقيقة لعمله، والذي يعرف أن السواد الأعظم من أهالي مدينته لن يستطيع مغادرتها أبدا، يفعل كل ما في استطاعته ليجعلها مكاناً جميلاً ونابضا بالحياة. عاصمة الإدارة الفلسطينية بحكم الأمر الواقع، عليها أن تكون واجهة مشرّفة أمام العالم، وفي الوقت ذاته يجب أن ترفض بإصرار دور العاصمة البديلة. في أحد المشاهد، ينظر رئيس البلدية إلى الكاميرا، بخليط من الحسرة والدهشة، موجهاً حديثه للمخرج، "يا ديفيد، تفكر الناس في أميركا حاسين أو بيعرفوا إيه اللي بيحصل هنا؟"

يتنقل حديد في زيارات رسمية بين الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا وألمانيا، وكذلك بريطانيا حيث تلتقطه الكاميرا في إحدى قاعات أكسفورد، يتأمل وحيداً وفي صمت حزين لوحة للقدس، المدينة القريبة جداً والبعيدة جداً. ولاحقاً يستقبل الأمير ويليام أثناء زيارته لرام الله، وبين مشاغل أخرى كثيرة، يناقش حديد مع مساعدته اسم النافورة الجديدة أمام مبنى البلدية. تقترح المُساعدة بإلحاح بضعة أسماء: الحياة، الحب؟ نافورة البلدية، نافورة المتنزه، نافورة رام الله؟

قرب النهاية، يصل الفيلم إلى ذروته بلا ترتيب سابق، فلا يمكن تخطيط الكثير في رام الله، يقتحم الجيش الإسرائيلي المدينة مرة أخرى، ويجد حديد نفسه محاصراً داخل مبنى البلدية. ومن دون أن يفارقه حس الدعابة الهادئ، يظهر أن أكثر ما يؤلمه بعد انسحاب الإسرائيليين، هو أن النافورة خربت أثناء الاشتباكات. وبعيون متسعة بالدهشة ينظر إلى هاتفه، وهو يشاهد مقطع فيديو لجنود الاحتلال بكامل سلاحهم في وسط رام الله، وهم يأخذون صور السيلفي، بسعادة كبيرة.. مع شجرة الميلاد.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها