الجمعة 2021/01/15

آخر تحديث: 18:40 (بيروت)

الحملة على الجيش.. ماذا تُخبر عن رُعاتها؟

الجمعة 2021/01/15
الحملة على الجيش.. ماذا تُخبر عن رُعاتها؟
من الاحتفالات بالجيش اللبناني في راس بعلبك إثر عودته من معاركه مع "داعش" على الحدود الشرقية مع سوريا (غيتي-2017)
increase حجم الخط decrease
الحملة التي تبدو ممنهجة على المؤسسة العسكرية هذه الأيام، بمحاولة تحميله مسؤولية انفجار المرفأ، تعيد إلى الأذهان أسئلة مركزية، تضع الهجوم هذا في مقام مستهجن وربما مخيف، باعتباره يستهدف آخر ما تبقى من المؤسسات المتماسكة والمتمتعة بإجماع اللبنانيين، وثقلٍ وازن من ثقتهم: ما مصدر هذا الإجماع؟ ولماذا يحب اللبنانيون، الجيش ورموزه، إلى هذه الدرجة؟ 


سؤال أساس، بدا مُقدَّراً له أن يطفو على سطح غالبية المحادثات مع أصدقاء سوريين، مثلاً، لا سيما الوافدين حديثاً إلى لبنان. فلطالما استغرب هؤلاء افتتان اللبنانيين عموماً بكل ما هو مرقط، وإلباسه للأطفال في عيد الاستقلال رغم أن أحداً لا يجبرهم على ذلك في مسيرات منظّمة، ولا هو اللباس الموحد للمناسبة. ثم اقتران المؤسسة، في الأذهان، مع صورة الوطن المشتهى، لا سيما في الإعلانات والدراما، لا كبروباغندا تُملى من أعلى، بل كثقافة "وطنية" تدغدغ مشاعر الناس بشكل حقيقي. وازدادت هذه الملاحظات حضوراً مع اندلاع تظاهرات 17 تشرين (في البدايات على الأقل)، والشعارات والسلوكيات العاطفية التي بدرت عن فئة كبيرة من المحتجين اتجاه عناصر الجيش.

والحقيقة أن السوريين المُقبِلين على التعرف على المجتمع البناني من قرب، ليسوا وحدهم في هذه الحيرة إزاء حنو عام على العسكر، وإن بدوا الأكثر حساسية اتجاهها بسبب ما يعانونه منذ نحو 50 عاماً من عسكرة للمجتمع والمؤسسات، وطغيان الجزمة وأجهزتها على مسالك الحياة، وصنوف العذابات في أداء الخدمة العسكرية الإلزامية أو التهرب منها. فمقارنة بسيطة مع سائر الدول العربية، تظهر غلبة التوجس الشعبي من العسكر، الذين هم في المجمل ساعون إلى السلطة، وحين ينالونها أو يخطفونها، يستبدّون بالحياة الفردية والسياسية، يصادرون الثقافة الحقوقية والحريات، ويعيّشون مواطنيهم في حالة "طوارئ" دائمة. حتى في مصر، ما عاد الجيش معبود الجماهير المطلق، كما كان طوال عقود منذ الاستقلال وحتى العام 2011.

وبالتالي ما الذي يفسر التفاف عموم اللبنانيين حول جيشهم هكذا، وهو الذي لم يخُض يوماً حرباً "وطنية" كبرى ضد عدو خارجي (باستثناء معارك مع إرهابيين إسلاميين في شمال لبنان وجرود السلسلة الشرقية)؟ بل قسمته الحرب الأهلية. وفي أحيان كثيرة، كما حصل في هجمة "حزب الله" على بيروت والجبل في 7 أيار 2008، بدا، على الأرض، أقرب إلى مراقب لقيام سلاح "المقاومة" بتأديب وانتهاك الداخل اللبناني. فلماذا يحتل مكانة خاصة في المخيلة الجماعية، لا ترقى إليها قوى الأمن الداخلي أو الأمن العام، ولا عناصر أي من الأحزاب/المليشيات مهما بلغت درجة التأييد والولاء لها؟..

الأسباب متشعبة ومتداخلة. الجيش يختزل صورة "الدولة" أو النظام وانتظامه، المفتقدة طوال سنوات الحرب اللبنانية، كبديل يحلم به الناس، للمليشيات وزعرانها، خصوصاً أن هؤلاء الأخيرين دُمج الكثير منهم، بعد الحرب، في الأجهزة الأمنية والعسكرية الأخرى التي تصادمت مع مدنيين في أكثر من مفصل سياسي وحريّاتي. وإذا كان الجيران العرب غالباً ما يعانون فائض الدولة وتغوّلها، فالدولة بالمعنى الناجز للكلمة، هي الأُمنية التي كانت قد بدأت تتحقق عشية الحرب الأهلية، لا سيما بالمؤسسات الضامنة والرعائية التي أرساها رئيس جمهورية آت إلى منصبه من الجيش، أي الاستثناء اللبناني الأبرز فؤاد شهاب، ثم اندثرت، وعادت عرجاء في سنوات السِّلم، لتنهار تماماً اليوم. والجدير بالاستعادة أن شهاب، حين كان قائداً للجيش في عهد الرئيس كميل شمعون، تمرّد على الأخير بأن حيّد الجيش عن التدخل في "ثورة 1958"، فأسس لفكرة حياد الجيش اللبناني عن السياسة مع بقائه ضامناً للنظام ككل، وكان ذلك من دعائم وصوله لرئاسة الجمهورية، وتكرّست منذئذ صورة الجيش المترفّع عن وحول السياسيين ونزعاتهم. 

ولما أعيد توحيد الجيش، بعد الحرب، انضوت فيه الفئات كافة، ولعله كان، ولا يزال، ملجأ أبناء المناطق الأكثر حرماناً، كوظيفة تقيهم البطالة وتستوعب أعدادهم وكفاءاتهم التي لا قدرة لسوق العمل المحلي على امتصاصها، فصاروا "خزانات" الجيش كما يقال. ورغم أن المؤسسة ليست بعيدة من محاصصات وتجاذبات أمراء الحرب، الطائفية والحزبية، التي تدار بها البلاد من قَبل "الطائف" وبعده، لكنها محاصصات لم تخرج يوماً إلى فضاء النقاش العام، ولا حدث أن تسبب بأزمة دستورية أو أمنية أو اقتصادية. كما لم تُسجّل تدخلات عسكرية سافرة في الحياة العامة المدنية، وإن كانت المؤسسة قد أنجبت، بعد "الطائف"، ثلاثة رؤساء للجمهورية (بصرف النظر عن نجاح عهودهم وتميزهم في مراكزهم)، لكنهم أُلزموا بالصلاحيات المنكمشة لمنصبهم. وكَونهم من خلفية عسكرية، فهذا لم يجعل الجيش أداة من أدوات حكمهم، لا سيما مع تمتّع المؤسسة العسكرية بهبات وتقديمات من الخارج في سياق تدعيم مكافحة الإرهاب وضمان شيء من الاستقرار اللبناني، وأيضاً في ظل جيش "حزب الله" الرديف، وتلك المعادلة المفتعلة والمضحكة بكل المعايير: "جيش، شعب، مقاومة".

حب اللبنانيين للجيش ليس بالضرورة موضوعياً، ولا يعني تكريس الجيش مترفعاً فعلاً عن كل ما سبق. لكنه واقع، ويبدو اليوم تحليله وفهمه تاريخياً، كظاهرة مغايرة لمحيطهم، مفيداً، في السياسة، كما في الاجتماع والثقافة.

اليوم، وبقيادة محور الممانعة الذي كان، ذات يوم قريب، "صديقاً" للجيش الوطني، سواء النائب سليمان فرنجية، أو "حزب الله" و"حركة أمل"، أو الثنائي الرئاسي ميشال عون وجبران باسيل، تبدو الحملة التي يشنها هؤلاء على الجيش، حركة دفاع مستشرس عن مصالح وطموحات ومساحات نفوذ. تبدأ من المنافسة على موقع رئاسة الجمهورية، التي بات مَن يشغل منصب قيادة الجيش (إلى جانب حاكم مصرف لبنان)، أيّاً كان، مرشّحاً قوياً لها. ولا تنتهي بصراع الإرادات والمرجعيات، والكباش على تشكيلات عسكرية وتعيينات في مرافق حساسة من قبيل مطار بيروت، من ضمن لائحة طويلة من الأسباب. وإن كان لا جيش ملائكياً مُنزّهاً في العالم بأسره، ولبنان ليس استثناء حيث تقع زلّات خادشة للحريات والسُبل القانونية الديموقراطية للتقاضي حولها.. فالأرجح أن الهجمة الممانعاتية الراهنة تُخبر عن منفذيها ورؤاهم للبنان وأدوارهم فيه، أكثر بكثير مما تُخبر عن الجيش أو تثير القلق منه أو عليه. هذه حملة المرآة لدولة لبنانية محتضرة من قبل اكتمال ولادتها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها