الجمعة 2021/01/15

آخر تحديث: 13:00 (بيروت)

فيلم بيكسار الجديد.. نكتشف حياتنا بعَيشها كمغامرة في الآخِرة

الجمعة 2021/01/15
increase حجم الخط decrease
بعد استكشافه كيفية عمل العواطف الإنسانية في فيلمه السابق (Inside Out" (2016"، يواصل بيتر دوكتور (بمشاركة كيمب باورز) تحقيقه في الإنساني والمجرّد بفيلمه الجديد "سول" (Soul)، مكرّساً نفسه هذه المرة لغربلة أرواحنا للوصول إلى ما يحدّد شخصيتنا. ما الشغف؟ وما الشخصية؟ وكيف يكتسبها المرء؟ ما معنى الحياة وما قيمتها إذا فقدنا ارتباطنا بما نحبّه؟ أسئلة قديمة كبيرة ومؤرقة يثيرها الفيلم الثالث والعشرين في مسيرة شركة بيكسار. الفيلم الذي كان من المفترض عرضه للمرة الأولى في مهرجان "كان" السينمائي، أيار الماضي ليوزع على الصالات في حزيران، طاوله ما طاول كل شيء بفعل الوباء، فلم يُعقد المهرجان ولم ينزل الفيلم إلى الصالات الأميركية، فاختار منتجوه إطلاقه على منصة "ديزني بلس" في عيد الميلاد كهدية مبهجة في ختام عام رديء.

الفيلم، مثل عنوانه، يملك روحاً، وبأطوار متعددة، فهو كلاسيكي كما يليق بفيلم هوليوودي قديم، وفلسفي ومحفّز على التفكير مثل أعمال دوكتور السابقة، وآسر بصرياً باقتراحات مبتكرة، ومربك أيضاً. يتأمل في الحياة الآخرة مناوراً المراجع الدينية بمهارة، متكئاً في ذلك على الأيديولوجيا الإنسانية لفرانك كابرا (وفيلمه "الجنّة يمكنها الانتظار" (1978) من ناحية، ومايكل بويل وإيمريك بريسبيرغر وفيلمهما "مسألة حياة أو موت" (1946) من ناحية أخرى. كل هذا مقدّم في عرضٍ بصري، أرضيته ومبتغاه جمالية-جمالية، يؤكد، بل ويوسّع حدود، الجودة المعهودة لإنتاجات بيكسار.


حكاية الفيلم بسيطة: جو غاردنر (جيمي فوكس) مدرّس موسيقي بالمدرسة الإعدادية في منتصف العمر، كان يحلم طوال حياته بمسيرة مهنية في عزف موسيقى الجاز، لكن حلمه لم يتحقق. ثم عندما جاءته أخيراً فرصته الكبيرة لتغيير المسار بالعزف في فرقة جاز تقودها عازفة الساكسفون الشهيرة دوروثيا ويليامز (أنجيلا باسيت)، ينتهي به حماسه إلى السقوط في إحدى بالوعات المجاري المفتوحة في قلب نيويورك. يموت. ومن هناك، على سلم متحرك نحو الآخرة (أو الـ"ما وراء االعظيم" كما يسمّيها الفيلم)، يحاول جو بكل قوته العودة إلى الحياة، لينتهي به المطاف في مكان برزخي (أو الـ"ما قبل العظيم" كما يسمّيه الفيلم)، حيث تحصل الأرواح الصغيرة على شخصيتها قبل إرسالها إلى الأرض، وتتلقّى التدريب من أجل العثور على "شرارتها" الخاصة، شغفها، ذلك الشيء الذي يؤهلها لمواجهة الحياة الأرضية ويضفي المعنى على وجودها.

لكن حظّه العاثر يصاحبه أيضاً إلى هناك، وعبر مجموعة مصادفات يرتبط مصيره بروحٍ حرون، الروح رقم 22 (تينا فاي)، لا تريد أن تعرف شيئاً عن البشر أو تنزل إلى الأرض. تريد 22 أن تبقى في "الما قبل"، وبالتالي ألا تُولد أساساً، بينما يريد جو العودة إلى الأرض، وبالتالي ألا يموت. اجتماع النقيضين يولّد المفارقات، ورحلة غاردنر و22 حافلة بها، بداية من لقائهما قبطان هيبي (Hippie) يقود سفينة شراعية على أنغام بوب ديلان للبحث عن الأرواح الضالة في سديم ما قبل الحياة، مروراً بالخطأ المضحك أثناء نزولهما إلى الأرض وتجسُّد جو في جسد قطة. نيويورك والجاز يقومان بالباقي، في رحلة تكوينية مزدوجة مليئة بالاكتشافات والمغامرات والعواطف.

الفيلم، من جديد، مثل عنوانه، لكن هذه المرة على المحمل الثاني لمعناه، أي موسيقى السول، ذلك النوع الموسيقي الخارج من رحم المجتمعات الأفروأميركية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، بدمجه وجمعه عديد أطياف الموسيقى السوداء من جاز وغوسبل و"آر أند بي". الجاز مركزي في الفيلم، كممارسة فنية وكلغة مشتركة، جماعية وفردية في آنٍ واحد، حيث يمكن للمرء أن يلعب في وئام (وتنوّع) مع الآخرين، وأن يفقد نفسه في العزف المنفرد أيضاً. يبدو ذلك اختصاراً ممتازاً للأيديولوجية الأميركية كما نجدها دائماً في سينما هوليوود، والتي تكرّس نفسها الآن للاحتفاء بالتنوع (هذا هو أول فيلم لبيكسار تكون البطولة فيه لشخصية أميركية سوداء)، وحرية الفرد، وتمجيد مساهمته البطولية (أو تضحيته) تجاه أخيه الإنسان والمجتمع. لكن بين سطور هذه القصة الملهمة، تظهر إشكالية "ديكتاتورية الموهبة"، مجسَّدة في تلك "الشرارة" التي يجب على كل روح إيجادها  قبل ولادتها، كإبنة أصيلة للثقافة البروتستانتية، وربما الكالفينية، وثيقة الصلة بالقضاء والقدر وجبرية المصائر الإنسانية.

من ناحية أخرى، يبدو الفيلم مأخوذاً بالنزعة الإنسانية لفرانك كابرا في فيلمه الشهير "إنها حياة رائعة" (1946)، معيداً أنشودة الترنّم الخالد في حبّ الأشياء الصغيرة: حفيف أوراق الأكاسيا في نيويورك خريفاً، وموج البحر اللذيذ الذي يغسل قدميك، وأشياء من هذا القبيل. من وجهة النظر هذه، وفي إعادة تجذير نفسه في أرض القصص الهوليوودية الكلاسيكية بمحاولته ممارسة "الجاز السينمائي"، يبدو الفيلم أكثر كآبة وأقل إقناعاً من سَلَفه الروحي "Inside Out"، الذي ما زال إنجازه في الربط بين الأفكار الفلسفية والصور المرقمنة مذهلاً وغير قابل للتجاوز.

على صعيد خطاب الفيلم، فرغم ما يبدو من طموحٍ في بدايته، بعبور الحدود والتنزّه بين الأرضي والميتافيزيقي، يوحي بأنه يسعى، مثلاً، وراء المعنى الكبير للحياة؛ إلا أنه بدلاً من محاولة ذلك يقدّم درساً متواضعاً حول أهمية المنظور والعيش بقصدية واعية. بعبارة أخرى،  بالطبع يحمل الفيلم بعض الفضائل الفنية والتربوية، إلا أنه أيضاً يتكبّد مشقّات عاطفية للوصول إلى الهدف المرهق دوماً والمتمثل في سرد "القصص الملهمة"، والذي يستهلك الفيلم أحياناً ويبعده عن أفضل مزاياه ويمنعه أن يكون فيلماً رائعاً. شيء مشابه حدث مع "Inside Out" أيضاً. الكثير من طروحات الفيلم الفكرية تظل موضع تساؤل: ملاحظاته على العمليات التعليمية والتربوية، والترنيمة الأخلاقية عن التضحية، وذلك القوس الدرامي حول فرقة الجاز التي تتجاوز الفرد (أو ربما تمجّده).

لكن الجانب الذي يسطع فيه "سول" حقاً هو جانبه السمعي البصري، وخاصة في التسلسلات التي تتعلّق بالحياة الآخرة. تقدِّم الرسوم المتحركة قفزة جريئة في هذه المرحلة: من الثراء المفصّل وفائق الواقعية المصورة به حياة جو اليومية في نيويورك سابقاً، يتغيَّر النمط إلى جمالية مسطحة شبه تكعيبية دون الكثير من الزخرفة. "الما قبل العظيم" يسكنه حشد من الكرات الصغيرة الساطعة ذات العيون المستديرة والأصوات الصغيرة الرقيقة، وهم يمثلون أرواحاً غير مكتملة، كما تشرح شخصية يمكن تصوّرها خارجة من إحدى لوحات بيكاسو في مرحلته المتأخرة، فيما جو المذهول يستحيل بيضة زرقاء بنظّارة وقبعة. موسيقى ترينت ريزنور وأتيكوس روس تصاحب مرئياتٍ لموجودات شفافة ومشاهد تسبح في تقزّحها اللوني، ما يعطي تجربة الفرجة أبعاداً فريدة. فيما يمزج دكتور بمهارة ليست غريبة عن رائدٍ مثله بين مرسومٍ ومرقمن، منقولٍ ومُطوَّر، فجوات إظلام وأضواء قطبية، أبعاد ثلاثية وأخرى خطية.

وبينما تؤرقنا الانعكاسات الميتافيزيقية وتلفّنا العجائب السمعية البصرية، لا يسعنا إلا التفكير في الفيلم كمجرد "مُنتَج" بالنسبة لشركته الأم، ديزني، وفقاً لمعطيات تعاملها معه بمنطق السوق الذي لم يعد يعرف قواعد ولا ذاكرة ولا حتى مشاعر. لكن أليس هذا ما فعله مصنع الوهم دائماً في رحلته الطويلة للتأثير وحصد الأرباح؟. من الطبيعي عندئذٍ أن نتساءل عما إذا كان فيلم مثل "سول"، عمل سمعي بصري، منتج ترفيهي في تيه منتجات ديزني بلس الأخرى، بإمكانه تخطّي وتجاوز استغلاله التجاري. إجابة هذا التساؤل يقولها الفيلم بنفسه: سنكتشف فقط من خلال العيش والتجربة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها