الخميس 2021/01/14

آخر تحديث: 12:37 (بيروت)

بيار بايار يدافع عن الوقائع المزيفة وأخبارها

الخميس 2021/01/14
بيار بايار يدافع عن الوقائع المزيفة وأخبارها
increase حجم الخط decrease
يستكمل بيار بايار ثلاثيته الدائرة حول استفهام "كيف نتكلم؟". فبعد كتابه الأشهر، "كيف نتكلم عن كتب لم نقرأها"، ثم "كيف نتكلم عن أمكنة لم نزرها؟"، ها هو يضع "كيف نتكلم عن وقائع لم تحصل؟" (كلها عن دار مينوي). بالطبع، هذه الثلاثية، وعلى اختلاف كل كتاب منها عن غيره، تستند الى أطروحة أساس، أو بالأحرى تدور حول بغية محورية، وهي تشييد النقد عبر الجهل، يعني النقد الذي يمارسه أصحابه حول موضوع ما من دون يكونوا على دراية بأي تفصيل من تفاصيله. فيأخذ بايار على عاتقه تركيز هذا النقد، وجعله بمثابة وجهة أو منظور، بالانطلاق من كون النقد، أو أي حديث على عمومه، لا يتحقق سوى بالجهل، أي أن الجهل هو الذي يحركه.

فعلياً، يمكن القول إن بايار يصيب في أطروحته تلك، لا سيما في حال سحبناها على الكتابة مثالاً لا حصراً. إذ إنها هي أيضاً تتحرك بالارتكاز الى جهل. فالذي يجلس للكتابة عن موضوع ما، مع علمه المسبق بماذا سيكتب، أعتقد أنه سيجد صعوبة كبيرة في ذلك. على العكس، الكتابة، بدايةً، هي تبديد لهذا المعلوم مسبقاً، كما أنها، وبالإضافة الى هذا، سير على متن الجهل صوب ما ستؤدي اليه. بالتالي، يصح الاعتقاد أن الجهل هو قلب الكتابة. أما المعرفة، التي قد تكون سابقة الوجود عليها، فلا بد للكتابة أن تضعها جانباً في حينها، أو لا بد لها أن تكون خارقة لها، أي أن تطيحها. فالمعرفة، وفي بعض الأحيان، ضد الكتابة، أما أن الكتابة، وفي بعض الأحيان، لازم تدميرها لها!

لكن، بالعودة الى بايار، فمن الأفضل استدعاء خبرية من الخبريات التي يقدمها في كتابه من أجل التعليق القليل على مضمونه. هذه الخبرية هي التالية: في "مذكرات ما وراء اللحد"، يشير شاتوبريان الى أنه، وحين زار أميركا في العام 1791، كان قد زار جورج واشنطن، فيتحدث عن كيف استقبله هذا الجنرال بتواضع، وكيف أبرز له مفتاح الباستيل مجادلاً إياه حول الثورة الفرنسية، قبل أن يدعوه الى العشاء.

يرجع بايار الى هذه الخبرية، كاشفاً عن كونها فعلياً لم تحصل، أي أن شاتوبريان لم يزر واشنطن، كما أن واشنطن لم يبقه على العشاء، لكن هذا لا يغير شيئاً في أمر هذه الزيارة من ناحية أن المؤرخين قد أدرجوها في سياق العلاقة بين فرنسا والولايات المتحدة الأميركية. ففي سياق التأريخ لهذه العلاقة، ثمة ما يمكن أن يدعى "بلفة"، أي خبرية مزيفة، لكن زيفها لا يلغي أنها شاركت في بناء تلك العلاقة، كما لا يلغي أنها مثيرة للاهتمام أيضاً من جهة أن شاتوبريان، وفي حين سيره في فيلادلفيا، يفكر في "بلف" الفرنسيين ليتكلم عن واشنطن، وعن لقائه به، من دون أن يكون قد تعرف عليه، بل مر بالقرب من مقرّه فقط.

على أن خبرية شاتوبريان هذه ليست منقطعة عن قصه لحوادث كانت قد حصلت فعلاً معه، على العكس، فهي متصلة به، بمعنى أن شاتوبريان، وحين يقصها، يستند الى الأسلوب التخييلي نفسه الذي اعتمده في خبريته تلك. بالتالي، بايار لا يرفع من قيمة قص شاتوبريان ذاك وينزل من قيمة خبريته المزيفة، إنما يجد أن الاثنين منسوجان على النحو عينه.

من هنا، بايار يصوب تلقي الأخبار المزيفة، بحيث أنها، وحتى لو كانت كذلك، أي مغلوطة، فهذا لا يدعو الى النظر نحوها على أساس كونها بلا قدرة سردية. بل إن انتشارها هو علامة واضحة على كونها تنطوي على هذه القدرة. وفي النتيجة، مكافحتها، أو الاستخبار عنها، عبر استبدالها بالوقائع الصحيحة، لا يجب أن يكون باباً من أجل غض الطرف عن قدرتها وعن مردها. يقول بايار إن الوقائع المزيفة قد تتسم بأثر حسن للغاية في العلاقات بين الافراد، بحيث أن الخبريات التي يتبادلونها، وحتى لو لم تكن تروي حوادث حاصلة، قد تقربهم من بعضهم البعض، كما أنها قد تأخذ محلاً رئيسياً في صلاتهم. وهذا، حتى لو اكتشفوا لاحقاً أنها بعيدة من الصحة.

في هذا السياق، يشدد بايار، وبدفاعه عن الأخبار المزيفة، على أننا كائنات ببُعد سردي، بالتالي، ولكي نحقق هذا البُعد، نمر بالضرورة بما هو غير حقيقي، بما هو زائف، بمعنى أن السرد يستلزمهما، كما أنه يشير الى إبداعيتهما. على هذا الأساس، الأخبار المزيفة هي ضروب من السرد، ففي حال رفضها سيؤدي ذلك الى رفضه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها