newsأسرار المدن

حين يقع بعض أهل السنّة في فخّ الطائفيّة

أسعد قطّانالأحد 2021/09/26
فتوى.jpg
المشنوق في دار الفتوى
حجم الخط
مشاركة عبر
إذا كان المسيحيّون يشكّلون، بمعنىً ما، «نكهة» لبنان ويضطلعون بدور مركزيّ في صنع طابعه «الفريد»، فإنّ أهل السنّة هم بيضة القبّان فيه، وذلك لا لمجرّد ارتباطهم «الطبيعيّ» بالمدى الإسلاميّ من المغرب إلى إندونيسيا، وهو ارتباط قادر على أن يكون غايةً في الخصوبة دينيّاً وثقافيّاً، بل أيضاً، وليس آخراً، بفعل خياراتهم الوطنيّة وتنوّعهم المجتمعيّ اللافت. هذه الملاحظات لا تستتبع أنّ أهل السنّة في لبنان كتلة متراصّة. وهم، ولا شكّ، سيفقدون الكثير من تميّزهم إذا أصبحوا كذلك. لكنّها تحيلنا إلى شخصيّة ثقافيّة جمعيّة يستحيل التنكّر لها، شخصيّة تشكّلت، كما هو حال سائر الجماعات، من خبرات تاريخيّة تراكميّة، من دون أن يعني هذا اختزال أهل السنّة في سرديّة واحدة أو حصرهم في مقترب واحد.

لا ريب في أنّ أهل السنّة في لبنان ينوءون اليوم تحت ثقل إشكاليّة مزدوجة: أوّلاً، افتقادهم إلى عمق إسلاميّ عربيّ يشعرهم بأنّهم ليسوا في مهبّ الريح. ولعلّ أبرز تعبير ملموس عن هذا الجانب من الإشكاليّة هو انكفاء المملكة العربيّة السعوديّة عنهم لاعتبارات سياسيّة. يضاف إلى ذلك الضعضعة الفاقعة في المعسكر العربيّ من الخليج إلى مصر العظيمة مروراً بدمشق وبغداد، ما جعل الساحة السنّيّة مفتوحةً على احتمالات تركيّة، وحتّى إيرانيّة، الارتياب فيها مشروع. وثانياُ إحجام «نخبهم» السياسيّة عن صوغ مشروع وطنيّ ذكيّ يستلهم ثوابتهم التاريخيّة، وذلك عوضاً من التخندق في الحسابات التكتيكيّة والاعتبارات المركنتيليّة والمصالح الانتخابيّة. هذا لا يعني، في أيّ حال من الأحوال، أنّ الإمكانات الثقافيّة والفكريّة لبلورة مثل هذا المشروع غائبة. لكنّه يشير إلى أنّ أهل السنّة، شأنهم شأن سائر اللبنانيّين، معرّضون للوقوع في تجربة تمترسهم وراء قيادات سياسيّة ومؤسّسة دينيّة يتغرغر كلاهما اليوم بترّهات العصبيّة القبليّة وفقاقيع الخطاب الأجوف. 

يرى بعضهم أنّ أهل السنّة والجماعة مستهدفون: يستهدفهم رئيس الجمهوريّة وصهره في معركة مفتوحة على موقع رئيس الحكومة وصلاحيّاته. ويستهدفهم المحقّق العدليّ في قضيّة انفجار المرفأ لكونهم الحلقة الأكثر هشاشة، إذ يسهل استضعافهم بفعل ما يرزحون تحته من ضياع البوصلة العربيّة هناك وغياب الفكرة الخلّاقة هنا. لكنّ الذين يمثّلون هذا الرأي ينطلقون من مقدّمتين رجراجتين: المقدّمة الأولى هي اختزال أهل السنّة، رجالاً ونساءً وأطفالاً وعمّالاً ومهندسين وأطبّاء وصحافيّين وشعراءً وفنّانين ومفكّرين ومثقّفين، بموقع سياسيّ واحد، وكأنّ حضورهم التاريخيّ والثقافيّ والمجتمعيّ صار اسمه حسّان دياب، أو سعد الحريريّ، أو نجيب ميقاتي. وكلّ واحد من هؤلاء عنوان سيرته الذاتيّة هو إمّا العقل المركنتيليّ وإمّا سوء الإدارة وإمّا الفشل السياسيّ وإمّا هذه كلّها مجتمعةً. والمقدّمة الثانية هي مماهاة أهل السنّة بحفنة من البشر لا يتعدّى عددهم أصابع اليد الواحدة يشكّ المحقّق العدليّ في أنّهم متورّطون في جريمة انفجار مرفأ بيروت أو تفجيره. كيف وصل بعض أهل السنّة إلى هذا الدرك من التسطيح الفكريّ؟ وبأيّ منطق إنسانيّ نربط مكانة جماعة برمّتها، وما تتمتّع به من وزن أخلاقيّ ومجتمعيّ وثقافيّ، بمصير زمرة من المشبوهين أيّاً تكن العوامل التي جعلت منهم «قادةً» في السياسة. بربّكم كيف يختلف هذا المنطق عن ذاك الذي يستنجد بمقولة «حقوق المسيحيّين» بوصفها مجرّد رزمة من الامتيازات تؤول إلى رئيس الجمهوريّة، ومن يحتجب وراءه، في تشكيل الحكومات وإجراء التعيينات وتسمية حرّاس الأحراش؟

إنّ المعركة التي يخوضها المحقّق العدليّ اليوم ضدّ طغمة البلاطجة التي تحكم لبنان، وهي معركة فريدة في تاريخ هذا البلد تتعذّر قراءة دلالاتها ما لم يتمّ وضعها في سياق الوعي الجديد الذي كرّسته انتفاضة ١٧ تشرين، تتلخّص في عنوان واحد: العدل هو فوق كلّ اعتبار، ولا يسوغ التضحية به على مذبح الجماعة دينيّة، كائناً ما كان شعورها بالاستهداف، ولا على مذبح الإرهاب المسلّح، ولا حتّى على مذبح ما اصطُلح على تسميته «السلم الأهليّ»، وهو لا يعدو كونه تعبيراً مقنّعاً يحيل إلى التسالم الكاذب بين قادة الطوائف وأمرائها. بعبارات أخرى: بين العدل من ناحية، والطائفيّة ومنطق القوّة من ناحية أخرى، يجب اختيار العدل. فوحده إحقاق العدل كفيل بأن يردّ للمجتمع اللبنانيّ توازنه المفقود منذ عقود، وذلك من جرّاء شعور الجميع، من دون استثناء، بأنّ الإفلات من العقاب بات هو القاعدة، ولا سيّما حين تبلغ القحة بالمتورّطين حدّ التحايل على القوانين والاحتماء بمُؤَسّسة دينيّة تجنح إلى استبدال الأخلاق بالعقليّة الطائفيّة وتتحالف مع الساسة حفاظاً على مصالحها. 
إنّ ما يعتمل اليوم في أذهان بعض أهل السنّة خطير وخطير جدّاً. فهو يفضي، في نهاية المطاف، إلى حلف موضوعيّ مع مَن يحرس الفساد، باسم حقن دماء الطائفة، ويرسل إلى القضاة رسائل تهديد مشفّرة. والأهمّ من ذلك، هو يفرّغ جماعةً دينيّةً برمّتها من جوهر وجودها، أي الأخلاق، ملحقاً إيّاها بحفنة من الزرازير المشبوهين الوصوليّين الفاشلين، ويختزلها بهم، ويجعل مصيرها متوقّفاً على مصيرهم. لقد آن الأوان لكسر هذه الحلقة المفرغة. ودقّت ساعة الخروج من شرنقة «الأمّة» الخائفة، المتحوّلة بفعل قوقعتها على ذاتها إلى مجرّد طائفة. وحان وقت الذهاب إلى خطاب جديد وخيارات جديدة. إنّ أهل السنّة المباركين قادرون على القيام بذلك.

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

  • image
  • image
  • image
  • image
  • image
subscribe

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث