لكن ماذا لو كان "كافكا" سوري الجنسية؟ كيف كان ليكتب "مسخه"؟ يبدو انه التحدي الذي حاول الكاتب السوري الشاب يوسف الخضر رفعه من هلال باكورته الأدبية "هامستر" الصادرة عن منشورات "ابييدي بوك" المصرية من أشهر قليلة. هل كان "كافكا" ليروي تغريبته؟ وكيف كان ليرويها؟ تبدأ قصة "جبرائيل" حين تصادر منه اوراق ثبوتيته ويتحول من صحافي مقيم في بيروت بشكل نظامي الى لاجئ، لا يطول صبر الرفاق والاصدقاء على "المعتر" الذي فقد كل شيء او تقريبا، لتبدأ رحلة سقوطه أو تحوله من شخص عادي الى مشرد ومن أدمي الى قارض، تحول الظروف دون أن يفقد كل شيء ويستقر في صورة "هامستر" وديع يكفله كثيرون، يكتشف عمق مصائبهم وكيف تعزز عرى الآدمية فيهم على نحو مميز داخل ديكور شديد الواقعية. يعطف عليه مشرد يعيش بقرب قمامة على أطراف شارع "الحمرا"، حيث يقضي "جبرائيل" ايامه متسكعا، يطعمه ويحميه من البرد، دون أن يتعرف على اسمه حتى: "الناس يحملون أسماءا لأنهم متشابهون... لكي لا يخطئوا بعضهم بعضا، أما نحن فلسنا بحاجة إليها. لماذا؟ (سألته) –عندها ضحك قائلا: حين ترجع في المرة المقبلة اسأل أي أحد في هذا الشارع عن مشرد يقضي الليل والنهار سكران قرب مكب نفايات، حتما سيدلونك علي." سرعان ما يتعرف البطل على شخص اخر بعد أن يتوقف قلب مشرد مكب النفايات عن الخفقان، يبيع الورود على اشارة المرور، يأخذه الى الغرفة التي يكتريها بحي على أطراف بيروت، ليكتشف ألوانا من "المعذبين في الأرض" لاجئون أفارقة، نساء ورجال و"جوليا" التي يقع في حبها سريعا دون أن يسر بذلك لأحد، يؤوي "الهامستير" دون مقابل ويطعمه تماما مثلما يفعل مع "جوليا" التي عادت إلى الشارع بعد ما طردتها زوجة الطبيب الذي تبناها، مباشرة بعد موته.
يبرع "الخضر" في تصوير شخصية "محمد" التي تبدو أشبه لشخصية "زوربا" في رواية كزانتزاكيس، يعرف "جبرائيل" على جمال وحيوية بيروت المعترين، لا بيروت أولئك الذين ينامون باكرا ليتوجهوا للعمل صباحا، راكضين خلف قوت يومهم ولا بيروت أولئك الذين لا ينامون فهم يملكون وقتهم، بيروت "محمد" هي بيروت من يملكون كل شيء ولا شيء في آن، سوداء كما في أعمال "كافكا" ومشرقة كما روح "زوربا"، حتى ريا تلك التي تسرق "جبرائيل" من أحضان غرفة حي "صبرا" وتسكنه غرفتها بشقة في قلب بيروت تتقاسمها رفقة أشخاص آخرين، هي القادمة من الجنوب، والتي تأبى أن يعيش صديقها المثقف كقارض أجرب، بل تجد له وظيفة معها بالمسرح الذي تعمل فيه سرعان ما "تقتل على يدي اخيها، لأنها جلبت العار لأهلها وتصبح قضيتها قضية رأي عام، يضطر البطل إلى الكذب حتى يثأر لها هو الذي لم يشهد آخر لحظات حياتها لأنه دخل غيبوبة بفعل بطش أخيها. لا يناجي "الخضر" في روايته بل يتميز في كتابة "وقت الرواية الميت"، الذي يتحول لميتا_نص او نص جانبي يجب أن يحلل بمعزل عن الأحداث داخل الرواية.
المتمعن في تجربة يوسف الخضر الاولى سيقف عند عثراتها الكثيرة بداية من النهاية التي لا ترقى لجهد الروائي الشاب على الرغم من توظيفه الجيد للتداخل المفهومي بين مصطلحي التشرد والشرود، تسلسل المغامرات دون هدف كبير ووحيد تسير نحوه، الا أن جمالية تجربته تنبع من محاولاته تقديم محاكاة تجارب روائية عديدة - قد تبدو مختلفة في ما بينها للوهلة الأولى- بأدوات حديثة، كتابة أدبية واثقة، رغم الشك الذي يبدأ به نصه طارحاً أحد أهم هواجس الرواية الحداثية وما تلاها: "فكرة كوني استطعت وببساطة، أن أتلاعب بمصائر شخصيات روايتي أرعبتني. هل هكذا يعاملنا الله؟"، لا يخاف "يوسف" من رسم شخصيات عديدة، ينقش ملامحها في خيال القارئ، يبث فيها روحا ويجعل القارئ يتفاعل معها، من خلال سوداوية، للمفارقة، تستل من القارئ ابتسامة بل ضحكة أحيانا رغما عنه، لا يوظف خطاباً واعظاً ولا يقدم حلولاً، كما يجعل من بيروت عالماً منفرداً لا يطيل في شرح التفاوتات، بل يكتفي بوصف هذه المدينة العالم التي سكنته قبل أن يسكنها، يصف بحرها مركزها وأطرافها ويمعن في توصيف هامشييها، اولئك الذين داست عليهم الدنيا، مثلما داس عليه الشرطي ولكنها في المقابل وضعت على طريقة أفرادا منعوا "تمسخه" التام ليعيش كقارض ظريف، ك"هامستر".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها