حجم الخط
مشاركة عبر
منذ زمن، كنت أنتظر أن تسنح لي فرصة قراءة كتاب "الجماهير والسلطة" لإلياس كانيتي مترجماً إلى العربية، هو دراسة أنثربولوجية عن الجماهير والسلطة، عن الحشود ومقاومة السلطة للجماهير بالقمع والاستبداد. وكان الباحث وضاح شرارة في كتابه "تشريق وتغريب" قدّم عرضاً لكتاب كانيتي، وترجمه بعنوان "الجمع والسلطان"، والجمع بحسب شرارة مراتب تبدأ بالجمهرة ثم الحشد ثم الجمع، وهي حالة فيزيائية، حالة تواجد اجسام متراصة وملتصقة بعضها ببعض في مكان ما، ولهدف ما، لينتج عن ذلك مناخ سيكولوجي محدد هو الذي يقود هذا الجمع ويحركه الى اهدافٍ ومرامٍ قد تكون مباغتة للجمع نفسه...
لا أريد الدخول في عرض كامل لكتاب كانيتي، فهو كتاب ضخم ومكثف المواضيع والأفكار، ما لفتني من خلال تصفحه فصل عنوانه "احتفال الشيعة بشهر "المحرم"... يتطرق إلى الاحتفال بعاشوراء من خلال المشهدية الإيرانية، واستنادا الى سرديات الكاتب ارثر غوبينو الذي أقام في بلاد فارس لفترة طويلة، وعمل على تحليل سيكولوجية الاسيويين وروحيتهم... وكانيتي من خلال استقرائه، يعتبر أن "هناك عقيدة مناحة لا يمكن العثور على مثيل لها في التركيز والتطرف، وهي فرقة نشأت بعد انشقاقها عن الاسلام- صاحب عقيدة الجهاد الواضحة، انها عقيدة الشيعة"، والآلام حول الحسين "هي النواة الحقيقية لعقيدة الشيعة"، ويسرد كانيتي جانباً مبسطاً من تاريخ الصراع على الخلافة الاسلامية، إلى أن وقعت كربلاء، يقارب المسألة من جانبها التراجيدي السيكولوجي، ينقل أنه عثر بعد المعركة بجثمان الحسين على ثلاث وثلاثين طعنة رمح واربع وثلاثين طعنة سيف، وهذه الرواية موجود في كتب الطبري و"مروج الذهب" للمسعودي، وتأخذ مزيدا من المبالغة في كتاب "بحار الأنوار" العلامة المجلسي، اذ "كانت السهام في درعه كالشوك في جلد القنفذ، وروي أنها كانت كلها في مقدمه".
وصارت النكبات التي حلّت بنسل محمد الموضوع الأصيل لأدبيات العقيدة الشيعية، وشخصية الحسين ومصيره يقعان من ناحية الشعور "موقع القلب من العقيدة"، فهما النبع الرئيس الذي تصدر عنه المعرفة الدينية و"من خلال آلامه يصل الابرار إلى الجنة"، ويصور كانيتي الشيعة الكربلائيين بشيء من النمطية الجاهزة، فحسبه أنصار هذه الفرقة الحقيقيون يعرفهم المرء بـ"أجسادهم الضامرة وشفاههم الجافة ظمأ وأعينهم الزائغة من بكاء متصل"، و"الشيعي الحقيقي ملاحق وبائس كالأسرة التي يدافع عن حقها ويعاني في سبيل ذلك"، وتحول قبر الحسين الى محجة، تدار حوله الحكايات والميتولوجيات التي لا تنتهي، وتحمل في طياتها الكثير من التفاسير والأبعاد، وثمة باحث عراقي توصل بعد دراسة إلى أن الحزن كان يكتنف العراقيين، وجاء كربلاء لتزيد من الحزن الذي يبدو جزءاً من حياة المجتمع هناك... وكما صار ضريح الحسين بكربلاء أهم مقصد لحج الشيعة من زمن باكر، تقول الرواية الشعبية التي يوردها كانيتي أن هناك أربعة آلاف من الملائكة يحيطون بقبر الحسين يبكونه ليل نهار، وهم يستقبلون كل حاج.. وينقل كانيتي الميتولوجيات التي يعتقد بها الشيعة بعد زيارة الضريح، فهي تقوم بموقع الخلاصية المهدوية، فالحاج او الزائر بعد زياته "لن يغرق أبدا، ولن يموت حريقاً، ولن تهاجمه حيوانات مفترسة" و"يعجز الشيطان أو الارواح الشريرة عن ايذائه" و"طبقاً لنصوص قديمة أخرى فإن كل من دُفن بضريح أحد الإئمة لم يُسأل يوم البعث مهما كان ذنبه، بل سوف يهرع إلى الجنة كأنه يغادر فراشه وتصافحه الملائكة مهنئة. ولذا أقام الشيعة المتقدمون في العمر بكربلاء كي يدركهم الموت هناك"... و"مشاهد الاحتفال الحقيقية التي صورت آلام الحسين على نحو درامي عاطفي قد تحولت من بدايات القرن التاسع عشر إلى تأسيس وقف ثابت لها". وقد تبرع الأثرياء لإقامة المسارح الخاصة بها، حيث إن ما يُبذل لهذا الغرض من نفقات تعتبر اعظم ما يمكن تقديمه من اعمال الخير، فبها "يشيد للمتبرع قصرٌ في الجنة"... ويصف كانيتي مسيرة اللطيمة، اذ "يصطف الأخوة أمام منصات الوعاظ وهم ينشدون على نحو عنيف ووحشي فيجعلون من يدهم اليمنى هيئة المحار يضربون بعنف وانتظام اسفل كتفهم اليسرى، فيصدر صوت مكتوم ناتج عن ضرب أيادٍ كثيرة في آن واحد، ليسمع لمسافة بعيدة، ليصل إلى الحشد أثره، وسرعان ما تصير الضربات ثقيلة وبطيئة مصدرة ايقاعاً، وتتحول سرعة متعجلة لتدب الإثارة في الحاضرين... وهناك نوعٌ آخر مختلف من الاخوة هم الاخوة الجلادون، وهم يصطحبون معهم الدفوف مختلفة الاحجام، وهم عراة الصدور، حفاة، حاسرو الرؤوس، وهم في بعض الاحيان مسنون، وأحياناً أخرى أطفال تتراوح أعمارهم بين الثانية عشرة والسادسة عشرة، وقد امسكوا بسلاسل حديدية وإبرٍ مشحوذة، بينما يحمل البعض منهم عيدانا من خشب وهم يدخلون المسرح في موكب وينشدون على وتيرة واحدة، تبدأ بطيئة للغاية ولا يزيدون على كلمتين: "حسين! حسين!"(..) وبعد حين يأخذ الجلادون في تعذيب أنفسهم بالسلاسل... أما كل من يحملون الإبر فإنهم يخزون أنفسهم في الاذرع والوجنات ليسيل الدم. فـ"تتأوه الجموع مذهولة، ويتصاعد الانفعال"... هكذا يكون من الصعوبة بمكان ألا يتأثر المرء بمثل هذا المشهد بحسب ارثر غوبينو، فالمرء يشعر بالمشاركة، وبالتعاطف والفزع في الوقت نفسه.. أما الألم الذي يلحقونه بأنفسهم فهو ألم الحسين. فإذا ما قاموا بتمثيل ذلك صار ألماً للجماعة كلها. من خلال الدق على الصدور الذي يستأنفه الجميع تنشأ كتلة ايقاعية من الجماهير بعد ان انتقل إليها أثر المناحة، فقد انتُزع الحسين منهم جميعاً وهو لهم جميعاً. يقول كانتي "لكن ليست بلورة جماعات الإخوة فحسب هي التي تخلق كتلة مناحة من بين الموجودين بالأثر نفسه يكون لفرادي الوعاظ وغيرهم"، وينقل كانيتي ما رواه او عايشه غوبنيو كشاهد عيان لمثل هذه المناسبات: "لقد امتلأ المسرح، كل آلام الحسين تم تصويرها بواقعية متناهية، من عذاب عطشه بعد أن قُطع عليه السبيل إلى الماء حتى فترات المعركة، حتى موته ولا توجد عقيدة أخرى منحت المناحة كل هذا الزخم، فهي تحصل على أعظم جزاء ديني وتفوق كل الاعمال الطيبة عدة اضعاف. أما يوم الدم في شوارع طهران الذي يشارك فيه نصف مليون انسان، فقد وصفه شاهد عيان على النحو التالي: كانوا خمسمئة ألف انسان تملكهم الجنون وهم يهيلون التراب على رؤوسهم ويضربونها بالارض على سبيل الخضوع طواعية للشهيد، ليس هناك سباق للموت أفضل من يوم حفل عاشوراء، حيث تنفتح أبواب الفردوس الثمانية أمام الصدِّيقين، فيحاول كلٌ الوصول إليه، أما جنود الخدمة المكلفين باستقبال الجرحى والذين يحفظون النظام فيتأثرون بانفعال الكتلة، فيقومون بخلع زيهم الرسمي ويلقون بأنفسهم في حمام الدم.
(*) كانيتي روائي وكاتب مسرحي وباحث ألماني حاز جائزة نوبل للأداب سنة 1981 وحسب ما قال موقع جائزة النوبل الرسمي فقد حصل عليها: "لكتاباته التي جسدت نظرته الفسيحة وثراء أفكاره وقوته الفنية". كان مهتما بالأدب والسياسة وعلم الاجتماع والفلسفة والعلوم. وكتابه "الجماهير والسلطة" صدر في مصر عن دار المحروسة، ترجمة محمد ابو رحمة، مراجعة عبد الحميد مرزوق.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها