السبت 2020/09/05

آخر تحديث: 13:02 (بيروت)

ديفيد غريبر: آخر الطوباويين

السبت 2020/09/05
ديفيد غريبر: آخر الطوباويين
مهندس "احتلوا وول ستريت".. و"نحن الـ99%"
increase حجم الخط decrease
"يصعب التفكير في زمن آخر كانت فيه مثل تلك الفجوة بين المثقفين وبين النشطاء، بين منظري الثورة وممارسيها"، هكذا يستهل الأنثروبولوجي الأميركي، ديفيد غريبر، مقالة الطويل "الأناركيون الجدد"، مدافعاً عن حركة أممية مناهضة للعولمة، يتولى فيها المهرجون تحدي المليارديرات فيما تقوم جيوش الهزليين و"البينك بلوك" بمهاجمة رجال الشرطة بالبالونات ومسدسات المياه ومنافض الريش. حركة أناركية بلا عنف، تلهمها مبادئ الديموقراطية المباشرة. لكن غريبر، الذي توفي الأربعاء الماضي قبل أن يبلغ الستين من عمره، كان على النقيض مما تذهب إليه مقولته الافتتاحية، فهو كان النموذج الأشهر في زمننا للتنظير المؤسَّس على الممارسة والمقترِن بها، والجمع بين أدوار المثقف والأكاديمي والناشط.
قبل أن تنطلق حركة "احتلوا الميادين"، متأثرة بثورات الربيع العربي، كان غريبر قد استشرف تلك العلاقة الجديدة بين الجنوب والشمال. ففيما كانت التنظيرات الثورية وتكتيكاتها الاحتجاجية تنتقل في الماضي من الشمال إلى الجنوب، فهو قد رصد بشكل مبكر انقلاب تلك المعادلة. لم يقتصر دور غريبر، مهندس "احتلوا وول ستريت"، على صك شعار الحركة "نحن الـ99%" (وهو ما أنكره دائماً)، فعمله الأكاديمي حول أنثروبولوجيا حركات الاحتجاج الاجتماعي وكتاباته سهلة التناول والعميقة، الموجهة للعامة، بالإضافة إلى نشاطه المباشر في شبكات مناهضة العولمة، مارس تأثيراً مباشراً في العمل الاحتجاجي حول العالم خلال العقدين الماضيين. 

في العام 2005، رفضت جامعة "يال" تجديد عقد غريبر معها، بسبب أنشطته السياسية، يقول هو أنه الآتي من أسرة عمالية كان ينتمي للطبقة الخطأ أيضاً، عشرون جامعة أميركية أخرى رفضت منحة وظيفة، فقط "غولد سميث"، جامعة صغيرة وراديكالية في جنوب لندن قدمت له فرصة للابتعاد عن الاكاديميا الأميركية المعادية، قبل أن ينتقل إلى "كلية لندن للاقتصاد" الأكثر شهرة والمحافظة قليلاً. 

تمسك غريبر بطوباوية تنظيراته، المعادية "للسياسة العملية"، عن عمد وبإصرار. فكتاباته وأنشطته السياسية كانت مانفيستو طويل للدفاع عن الطوباوية، وعن الانطولوجيات السياسية للخيال، عن ثورة بالمعكوس، تبدأ في الشارع ويلحق بها التنظير. اليوم وبعد ما يقرب من عقد من انتفاضات الربيع العربي، لا تبدو أفكار غريبر ساذجة فحسب، بل يعتبرها البعض جزءاً من أسباب فشل الحركات الاحتجاجية "غير المركزية" والمآلات المحبطة لموجاتها المتتابعة. ومع هذا، يظل كتاب "تاريخ الدين: الخمسة آلاف سنة الأولى" (2011)، أهم المساهمات المعاصرة في مجال أنثروبولوجيا القيمة، وسبب شهرته الأكبر، جنباً إلى جنب مع كتابه الأسبق "شذرات من أنثروبولوجيا أناركية" (2004)، والذي يؤسس بشجاعة لـ"عِلم جديد" يكاد أن يكون موجوداً، ونظرية في "السعادة السياسية"، ونضال "ضد العمل"، ضد منطق العمل المأجور في المطلق. ولم يكن كتابه الأخيرة "الوظائف التافهة" (2018) أقل تأثيراً، فقد نجح في تقديم نظرية محدثة للاستلاب في عصرنا، بلغة سهلة الفهم سمحت بتلقيها على مستوى جماهيري واسع. 

بثبات، دعم غريبر المتحدر من أسرة يهودية، القضية الفلسطينية، ونشط بشكل خاص في حملة المقاطعة وإدانة العدوان والحصار الإسرائيلي على غزة، وإن ظل افتتانه الأكبر منصبّاً على النضال الكردي، ورأى في "روجافا"، التي أحاطها بهالة رومانسية، تجربة ديموقراطية فريدة، تطبق ما أطلق عليه "إدارة سياسية بلا دولة".  

عمل غريبر لسنوات على مشروع ضخم لإعادة كتابة تاريخ اللامساواة وأصولها، ورحل قبل أن يصدر كتابه الأخير، "فجر كل شيء: تاريخ جديد للبشرية" (المزمع صدوره العام المقبل)، والذي كتبه بالمشاركة مع الأركيولوجي البريطاني، ديفيد وينغرو. ويمكن الجزم، بقليل من التردد، بأن غريبر كان من أكثر الكتّاب والأكاديميين تأثيراً في القرن الحادي والعشرين، أكثرهم تواضعاً وانخراطاً، وأكثرهم شجاعة وسذاجة متعمدة، وكان واحداً من أبرز رموز حركاته الاحتجاجية، بكل طموحاتها وانتكاساتها. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها