الجمعة 2020/09/04

آخر تحديث: 12:40 (بيروت)

لبنان الماكروني

الجمعة 2020/09/04
لبنان الماكروني
فيروز وماكرون
increase حجم الخط decrease
لبنان الذي ذهب اليه ايمانويل ماكرون في حين زيارته لفيروز، هو نفسه لبنان الذي لا يعرف العالم غيره. هذا اللبنان ليس لبنان السابق على حربه الأهلية فحسب، إنما هو لبنان اللاحق عليها أيضاً. إذ إنه، وفي اثرها، تقدم الى ذلك العالم على أساس أنه مسعى متواصل لإعادة إعماره: إنه لبنان المدمر و"الذي يحاول".

على هذا النحو، القول إن ماكرون فتش عن ذلك اللبنان ليجعله أيقونة ليس بالقول الدقيق، إنما هو لم يبحث، بل أكد على لبنان الذي أُعطي للعالم، أو بالأحرى الذي صُدّر إليه بعد اتفاق الطائف لكي يكون مقصده. فلبنان هذا جذب عالمه نحوه بكونه تجربة "تعايش"، ليس بين الهويات فقط، بل، وقبلها أيضاً، بين حطامه و"محاولته"، التي لا تفيد سوى العيش على هذا الحطام بالتكيف معه.

لم تصنع فيروز هذا اللبنان وحدها، من الممكن القول إنها عمدت، بتصويتها، الى إطلاقه، إلى إطلاق النسخة الأساس منها، لكن، صناعته، لا سيما في العقود الثلاثة الأخيرة، لم تكن رحبانية على عمومها. فلبنان هذا يتوزع على الغالب من الإنتاج الثقافي، الذي يريد أن يجد له مكاناً في السوق الخارجي. فلا يتوجه هذا الإنتاج الى سوقه سوى بالتنويع على لبنان ذاك، وأوج هذا التنويع هو قلب "التعايش" إلى اقتتال، وقلب "المحاولة" إلى محاولة متعثرة.

وبفعل هذا التنويع، كان ذلك السوق يهرع الى استقبال الإنتاج، متفرجاً على "المتقاتلين"، بوصفهم الاخوة البرابرة، ومساعداً في "المحاولة" مرة أخرى، وفي هذه الاثناء، يعود ويموله لكي يتناول موضوعة حربه، فينتهي منها. بهذا، لبنان ذاك هو لبنان هذا الإنتاج، الذي لا تندرج فيه فيروز، بل تشكل مبتدأه، أما ما يندرج فيه فهو الرواية، والشعر، وصناعة الأفلام، والفن المعاصر... إنه الانتاج، الذي لا يمكن غض النظر عن كونه، وقبل سنوات قليلة، سجّل إعادة تدوير رحبانية لبنانه بطريقة واضحة، عبر استعادة الزجل أو عبر استرجاع الفولكلور القروي، وبينهما، كان يفتش عن "قضيته" في حين أن سوقه يركز على الثورات في العالم العربي.

كما أن لبنان هذا ليس يمينياً فحسب، إنه يسار أيضاً. فكل ما سجله اليسار كنقد بحق هذا اللبنان، أكان قبل الحرب، أو حين توزع على الممانعة و"الليبرالية" من بعدها، هو نقد من داخل موضوعه، بحيث أن منطلقه الأساس هو ابن فيروز، زياد الرحباني. فالإبن هو الذي أسس لنقد لبنان الأم، ومن بعدها، تكرر هذا النقد، أخذ أشكالاً عديدة، لكن، وفي نهايته، كان مطلعه بنوياً بامتياز، بحيث أنه بمثابة تنويع على هذا المطلع أيضاً. لبنان الأنتي-فيروزي هو استمرار للبنان الفيروزي، وفي حين كان يريد أن يكون أقل توهماً منه، فصار من دون خيال. الا أن الخبر السيئ أن الاقلاع عن الخيال هو قوام الوهم، أو بالأحرى هو رجوع إلى بدئه.
عندما يقدم ماكرون على زيارة  فيروز، فهو يشير، وبخبثه المعتاد، أن كل شيء يعود إلى لبنانها، أي بكون لبنان، الذي صُدّر إلى العالم، أكان الثقافي أو الاقتصادي أو السياسي، أكان رحبانياً أم مضاداً للرحبانية، مرجعه هو لبنان تلك السيدة، التي قال ابنها ذات يوم أنها تحب حسن نصرالله. وبالفعل، لا لبنان للأسف غير لبنانها، فحتى لبنان الذي تطرحه 17 تشرين المدنية، يعيد إلى لبنان ماكرون ذاك، يعيد إلى مطلعه أو إلى التنويع عليه.

وهذا بالتحديد، ما يجعل الخيال والركون اليه وضعاً لازماً وحيوياً من أجل بناء لبنان آخر، أو على الأقل من اجل التطلع اليه. فيكون عندها أبعد من الفيروزية والانتي-فيروزية، حيث لا  يحكمه الوهم، ولا يودي به التفلت من هذا الوهم إلى النزول في مستهله. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها