الأربعاء 2020/09/30

آخر تحديث: 12:27 (بيروت)

في أنه لا ضرورة لـ"الوجه الثقافي"

الأربعاء 2020/09/30
في أنه لا ضرورة لـ"الوجه الثقافي"
increase حجم الخط decrease
بعد مجزرة المرفأ التي ارتكبها النظام في لبنان، دارت السمفونية إياها حول "وجه بيروت الثقافي"، بحيث شُدد على كون هذا "الوجه" قد هُشّم، وتضرر. وبالتالي، لا بد من إنقاذه، أو بث الحياة فيه من جديد لكي يحلق، وتماماً، كطائر الفينيق، من تحت الرماد. وبالفعل، ثمة في تلك السمفونية ضرب من الحقيقة، بحيث أن ذلك "الوجه" ليس منفصلاً عن حال بلادنا، أو عن دمارها، لكن، في الوقت نفسه، الدعوة الى ترميمه هي دعوة إلى استئناف ما كان عليه من قبل، أي قبل تأذيه. ما الوضع الذي كان عليه؟ باختصار، ومن اسمه، بمعنى كونه وجهاً، كان وجوده يفيد بتحديد وظيفة معينة للثقافة، للثقافة في المدينة، للثقافة المركزة فيها: الثقافة واجهة تجميلية، بحيث أنها تستقبل زائري البلاد، وتعمد الى تظهيرها لهم بما هي منصرفة من حالها تلك، أو بالأحرى بما هي ساعية الى ذلك الانصراف.

على هذا النحو، كانت الثقافة تجميلاً لحال البلاد، وهذا التجميل قوامه الطيران فوق هذه الحال، أو تخفيفها. أما، وحين لا يطير فوقها، ولا يخففها، فهو يستغلها أو يتعامل معها تكنوقراطياً أو وظيفياً. من جهة، الثقافة تشتغل، بمعنى أنها تُنتج، كأنها ليست على صلة بالدمار في البلاد. ومن جهة مقابلة، وعلى أساس نغمة "الالتزام" أو "النشاطية"، تعقد الثقافة صلة معينة بها، بحيث تستغلها كموضوع قبل أن تقترب منه لـ"لتحقيق انجازاتها" على طريقة حسان دياب ومجلداته! هكذا، لا تتوجه الثقافة الى البلاد، الى حالها، سوى لكي تستفيد منها، وبهذا، لا تبدو أنها، وكمنشأة، مختلفة عن عمل البنوك، التي لطالما كانت داعمتها، ومحفزتها، وشريكتها، بحيث أنها واياها تستثمر في حال البلاد، تنتفع منها، قبل أن تتركها مثلما كانت، أو تتركها على تفاقمها.

كانت هذه البنوك، بالإقتراض، مثل الثقافة، بالتجميل. مسكونة بإرادة نفي الدمار، بإرادة أن توفر لساكنيه عيشاً في الأوهام، كما توفر إطالة هذا العيش داخلها حتى يصير الدفاع عنها مساوياً للسقوط في التفاهة. بالتأكيد، البنوك، وبعملها، تؤدي دورها، إلا أن الثقافة، ومن جهتها أيضاً، لم تبتعد عن دورها، الذي كان قد صار، وبعد تحولها الى مجرد علاقة إنتاجية بسوق ضئيل وظلامي للغاية، بمثابة المحافظة على هذه العلاقة لا أكثر ولا أقل. لا بد من ثقافة أخرى، هذا بديهي، لكن لا بد من الإشارة الى أن تلك الثقافة هي تطفلية على البلاد.

بالانطلاق من تعريف الثقافة، وبحسب الكاتب النمساوي إيغون فريدل، بكونها "الثراء بالمشاكل"، فمن الممكن القول، وبطريقة فكاهية نوعاً ما، من دون أن يلغي ذلك جديتها البتة، بأن لبنان بلاد ثقافية بامتياز، بحيث أنها "ثرية بمشاكلها". على أن ناسها ليسوا بالجاهلين حيال هذه المشاكل، حيال ثقافتهم، بل يخترعون حلولها، أو طرحها- طالما أن طرح مشكلة هو السبيل الأساس لحلها - مما يشبه العدم. على هذا النحو، ليس لبنان بلاداً ثقافية لأنه "ثري بالمشاكل" فقط، بل لأنه، وأيضاً، "ثري بالحلول"، التي، وفي الكثير من الأوقات، لا يقدر على التمكن منها لسبب أوّلي، وهو نظامه. وهذا بالتحديد، الذي لا تفهمه تلك الثقافة التجميلية، بحيث أنها، وحين تصنع وجهاً لتلك البلاد بالتعامل معها، وليس بنكرانها، تخبرها عن "مشاكلها"، يعني أنها تنوي "تثقيفها". وهذا، على أساس أنها ليست "مثقفة"، ولا تعرف "مشاكلها". مثلما أنها، وبعد اخبارها بـ"مشاكلها"، تقدم لها "الحلول"، التي، وفي أوجها، وهو أوج كاريكاتوري، تفيد بمطالبة الدولة بالقيام بواجباتها. فلنتذكر، في هذا السياق، ما كُتب على جدار من الجدران المتبقية حول المرفأ بعد المجزرة:"دولتي فعلت ذلك"!

هكذا، ثمة ثقافتان. الأولى، هي ثقافة البلاد بما هي ثرائها بالمشاكل في حين أنها تخترع حلولها، لكنها، ونتيجة نظامها، لا تتمكن من تلك الحلول. الثانية، هي ثقافة متطفلة عليها، لا مشاكل لديها، ولا تخلقها، إنما تستغل مشاكل البلاد. أما الحلول التي تملكها، فهي كناية عن نقل لهذه المشاكل الى من يفاقمها وينتجها، أي الدولة، وبالتالي، فلا حلول لديها. على أن الصلة بين الثقافتين هي كون الثانية لا قدرة لها على الإقرار بوجود الأولى، بل أنها تعتاش على انعدام هذا الإقرار مهما كلفها ذلك من توهم، والافراط فيه. وهذا لأن أي إقرار من قبيله، يعني انتفاء ظرف وداعي وجودها، أو بالأحرى تطفلها. ومن ناحية ثقافة البلاد، فهي لا تعير أي أهمية للثقافة المتطفلة، بل انها، وإن نظرت إليها، فعلى أساس صفتها هذه، بحيث لا ضرورة لها. فحتى تجميلها هو تجميل سخيف، بحيث أنه غدا من المشاكل، التي لا بد من طرحها، والانتهاء منها، أو التي لا تستحق اي طرح أو إنهاء. إنهما ثقافتان إذاً، ثقافة البلاد، وثقافة "الوجه الثقافي". ثقافة تعمل بطريقة غير معلنة، كأنها ليست ثقافة. وثقافة قوامها "وجه" يشتغل بالتطفل على كل ثقافة!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها