الثلاثاء 2020/09/29

آخر تحديث: 17:05 (بيروت)

"الدولار الطلابي" والحرب المجانية

الثلاثاء 2020/09/29
"الدولار الطلابي" والحرب المجانية
من اعتصامات أهالي الطلاب في الخارج لإقرار الدولار الطلابي (انترنت)
increase حجم الخط decrease

لم تكن عائلتي هي الوحيدة  بين المغتربين التي قررت إرسال بناتها الثلاث، بالدَّور وتباعاً، إلى الجامعة الأميركية في بيروت، فيما الحرب الأهلية في أوجها، بين أواخر السبعينات ومنتصف الثمانينات. مثل أبي الذي كان موظفاً في الخليج، كان كُثر، ما إن ينال أبناؤهم وبناتهم شهادة البكالوريا حتى يشحنوهم إلى الجامعات التي لم يكن متوافراً منها في معظم الدول الخليجية سوى "حكومي" ما كان في ذلك الوقت يلبّي طموحات الطبقات المتوسطة في شهادات "تفتح الأبواب" أمام أولادهم وهي "الاستثمار" الأكبر في مستقبلهم وجلّ ما يمكنهم أن يورثوهم إياه. في تلك الأيام، وخلافاً للحال اليوم، لم تكن المدارس الخليجية الحكومية والمجانية حكراً على المواطنين، بل مفتوحة للوافدين أيضاً (بمستوى تعليمي ممتاز لكنه كان مُعرَّباً وضعيفاً بعض الشيء في اللغات الأجنبية). وكانت أُسرٌ كثيرة تختار تلك المدارس المجانية لأولادها، من أجل الادخار لدراسة جامعية "مرتّبة" بعد تقوية جانبية للغة الإنكليزية بشكل خاص. وتنوعت الخيارات أمام هؤلاء بين أوروبا وأميركا (للميسورين جداً).. والجامعات الرسمية والخاصة في مصر والأردن ولبنان، للجاليات من أبناء تلك البلدان، كما لبقية العرب ممن راكموا ما لا يكفي للسفر غرباً، لكنه يشتري تعليماً محترماً، بالاستفادة أيضاً من أسعار العملات حينذاك، وخصوصاً الليرة اللبنانية.

هكذا، كانت الأموال تتدفق من بلاد الاغتراب إلى المصارف اللبنانية، استثماراً في مستوى تعليمي تميّزت به بيروت، وفي الغالب لم تنل منه كثيراً الحرب والمليشيات، وظلّت شهاداته معترفاً بها حول العالم. أما السؤال الذي دأب بعض الأصدقاء على طرحه، عن الأحوال الأمنية وجرأة هؤلاء الأهل في إرسال أولادهم إلى أتون لبناني لا يبدو له خمود، فيبدو لي الآن، وبمفعول رجعي، أن الإجابة عليه بين اللبنانيين ممّن لم يولوا وجوههم غرباً، تمتعت بميزة فريدة: فكانت طبيعية من خارج السياق الطبيعي. إذ لا شيء طبيعياً في حرب أهلية، ومعارك شوارع وزواريب، ومليشيات طائفية، ومخيمات لجوء متوترة ومناطق تهجير ونزوح، وغارات إسرائيلية موسمية تكللت باجتياح 1982. لكن الطبيعي، بالنسبة إلى أولئك اللبنانيين حينذاك، بل وبعض الفلسطينيين والسوريين، أن: "يصير على أولادنا كما يصير على أقربائنا وأصدقائنا في بيروت". والطبيعي أيضاً، في عُرفهم، أن يطوّر الناس تلك الحواس المشذّبة بيوميات الحرب، الاستماع الدائم للأخبار و"الفلاشات" العاجلة وبرنامج "سالكة وآمنة" الإذاعي، خصوصاً قبل مغادرة البيت صباحاً. فإذا "علقت" اشتباكات أو وقع انفجار، أقفلت الجامعات أو تراجع الحضور فيها، ولازمنا المنازل، وإلا فالخروج إلى الصفوف، مع مراعاة عدم التجول كثيراً بعد مغيب الشمس، واستحسان التخلي عن النشاطات الجامعية وغير الجامعية التي تتطلب تأخير موعد العودة إلى البيت. نعم، طبيعي، وثمن لم نرَه آنذاك باهظاً مقابل شهادة من "الأميركية" أو مثيلاتها، ولا حتى المخاطرة التي تنطوي عليها سيارات مفخخة لا مواعيد لها، والقناصة، وأي احتكاك قَدَريّ بمسلحي الحواجز وزعران الأحزاب.

في عز الحرب، والذبح على الهوية والخطف وموت المدنيين بالصدفة في طوابير الأفران ومحطات الوقود، لربما كان العيش أفضل. آلاف وآلاف العائلات استندت على تحويلات من الخارج واستؤنفت الحياة والأحلام بالتي هي أحسن لمن لم يمتشق السلاح. والتعليم العالي استمر وظل مرغوباً، رغم حوادث خطف الأساتذة الأجانب وتجاوزات الأحزاب داخل الجامعات، إذ ربما نجح البعض بالواسطة (وأحياناً بالتهديد)، لكن المجتهد بقي حظّه في التميز شبه مكفول، بالحد الأكاديمي المقبول، وحتى بالمنح التعليمية من داخل الجامعات (ولو بالتشبيح.. كان التشبيح يُستخدم أحياناً للتعليم!)، ومن وخارجها أيضاً. فكانت منح "مؤسسة الحريري"، على سبيل المثال لا الحصر، قِبلة الآمال، بل وكفلت حداً أدنى من التنوع الطبقي في جامعات مقتصرة على ذوي المداخيل المرتفعة.

اليوم، وبعد كلام كثير عن "الدولار الطلابي"، والجلسة التشريعية الخاصة به، تبدو بيروت وكأنها ترتدي ثوبها الجميل بالمقلوب. كما لو أنها طفلة بين المدن، لم تطوّر مهاراتها أو تصنع شيئاً من تاريخها بعد، أو كما لو أنها فقدت عقلها والرشد وخرجت من مسكنها بمظهرها المزري هذا.

كل من يستطيع إرسال أولاده لاستكمال تعليمهم في الخارج، فعلها، ولو بالنزر اليسير من المدخرات التي ما عاد يملك حق التصرّف (البديهي) فيها إلا بشقّ الأنفس.. وبقانون! السفر من أجل التعليم العالي بات ضرورة، بل حجّة فرار الشباب من لبنان الذي يفترض أنه لم يشعل حرباً أهلية جديدة بعد، لكن انهياره ودماره فاق "إنجازات" 1975-1990، فيما الإحساس "بالأمن"، وحواس الحرب و"العواجل" ومحاولات التموين، ما زالت كما هي، بل إنها الآن شحيحة وأصعب وأكثر حراجة. "الدولار الطلابي"، واحدة من تسميات كثيرة للدولار، ولليرة أيضاً، تكرّست خلال أقل من سنة، وصار الهمّ كيف نخرج مالاً من لبنان، وكيف لا نستقبل أي أموال إضافية من الخارج لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً. ومع ذلك، لم تنتفِ أسباب الاستغاثة، من الأهل الطلاب في أصقاع الأرض. ومع ذلك، لم يتراجعوا عن الخيار المرّ، لأن البقاء أمرّ. وخيبة اليافعين الذين ملأوا الشوارع بهتافاتهم وأغانيهم وصراخهم تحت هراوات وحجارة "مكافحة الشغب" لا دواء لها إلا الرحيل، وبأي ثمن.

بعدما كان للحرب "اقتصادها" الذي يسيّر حيوات المضطرين من الباقين، وكانت لعَبَثها ملامح أليمة ليس الإفلاس التام من بينها، ها هي اليوم الحرب الأشرس، حرب "السرقة الكبرى"، بلا سياسة ولا اقتصاد، وطبعاً بلا أمن كما هي الحروب دائماً. حرب مجانية، تطرح على التاريخ الحديث معضلة تعريفها كطارئ طلسميّ هجين.      

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها