الجمعة 2020/09/25

آخر تحديث: 13:08 (بيروت)

يعيش يعيش... زمن الانقلابات

الجمعة 2020/09/25
increase حجم الخط decrease
منذ خمسين عاما، قدّم الأخوان رحباني مع فيروز على خشبة قصر البيكاديلي في بيروت مسرحيّتهما الغنائية "يعيش يعيش". شكّلت هذه المسرحية تحوّلا كبيرا في المسرح الغنائي الرحباني، وتميّزت بطابعها العصري وبحواراتها التي أثارت سجالا واسعا في عالم الصحافة.

قبل الإعلان في نهاية سنة 1969، بدأ الحديث عن هذه المسرحية قبل الإعلان عن عنوانها. كتبت مجلة "الشبكة" في خبر قصير: "تليفزيون راديو تليفون، هذه الأجهزة سيستخدمها الأخوان رحباني كأكسيسوار لمسرحيتهما الجديدة، والمعروف انه لم يسبق للرحابنة ان استخدموا مثل هذا الأكسيسوار في أعمالهم السابقة. وسترتدي فيروز في المسرحية الجديدة مع بقية أعضاء الفرقة ملابس عصرية جديدة وستنشد أغنيات عصرية بكل معنى الكلمة. أما الحوار، وهو العمود الفقري لهذه المسرحية، فيتضمن وخزات سياسية ونكات انتقادية ممتعة". وقبل انطلاق العروض الأولى للمسرحية، عادت "الشبكة" وقالت في خبر ثان في مطلع شباط/فبراير 1970 ان فيروز ستغني في مسرحية "يعيش يعيش" سبع أغنيات، وان شقيقتها هدى ستغني "واحدة من نوع الجيرك، لترقص على انغامها جماعة من الهيبيين"، وأضافت: "الجدير بالذكر ان الرحبانيين، عاصي ومنصور، اوصيا على مجموعة باروكات لتضعها ممثلات المسرحية على رؤوسهن من قبيل التنكر".

حضرت غادة السمان البروفات النهائية للمسرحية، وكتبت في "الحوادث" مقالة طويلة حول هذا العمل الفني، واستهلت حديثها بالقول: "حتى في صورته الخام هذه، استطاع ان يمس كثيرا من أوتاري، وأن يحرضني، ويوقظ في أعماقي أكثر من تساؤل، وأعمق من شهقة اعجاب. قصة المسرحية هي بحد ذاتها كقصة عمل فني تلفت الانتباه. ولأنني أحب ككاتبة قصة ان أتناولها كقصة. وفكرتها على بساطتها الظاهرة عميقة واسعة الشمول والابعاد إلى حد قلما يتوافر حتى للمسرح الغنائي الذي قد يهادن أحيانا في اختيار القصة ويغطي عجزها باللحن والديكورات والاستعراضات". بعد هذه المقدمة، عرضت الكاتبة باختصار قصة المسرحية، وجاء في هذا العرض: "هيفا، فيروز، مواطنة ذكية طيبة لم تفسد البرجزة أصالتها ولا مرض انصاف المتعلمين بعفويتها، تعمل مع جدها نصري شمس الدين في دكانه. يحدث انقلاب يطيح بالإمبراطور، ويسمع الناس البلاغ الرقم واحد، كالعادة، مذاعاً من الراديو مؤذناً باستلام جماعة الانقلاب للحكم. يهرب الامبراطور، بتنكر في زي رجل بسيط من أبناء الشعب ويسمي نفسه برهوم. يأتي برهوم الى دكان الجد ويختبئ فيه. يحتضنه الجد وهيفا دون ان يعرفا انه الامبراطور الهارب. يعمل معهما ويعيش معهما ويستمع معهما للأخبار ويكتشف عبرهما عالم رعيته الذي كان يجهله. جماعة الانقلاب لم تكن أفضل من الامبراطور. لقد تبدّل الحاكم ولم يتبدل شيء من الحكم. نقمة الناس تتحول على الانقلابيين. ينقسم الناس إلى فئة الإمبراطوريين، شواربهم معقوفة إلى الأعلى، وإلى فئة الانقلابيين، شواربهم إلى الأسفل. يتعرف برهوم بمهرب كبير. يتصادقان، يتحالفان، ويقومان بانقلاب يستقطب نقمة الناس على الحكم ويطيح به. يصبح الامبراطور حاكما من جديد ولكن تحت اسم برهوم، ويصدر البلاغ رقم واحد من جديد. وأول شيء يفعله برهوم بعد استلامه للحكم هو أن يبعث برجاله لتفتيش دكان هيفا وجدها، الدكان التي آوته، بحثا عن رجال الحكم الذي أطاح به، والذين سيهربون ويختبئون هناك حتما كما حدث له من قبل".

رأت غادة السمان ان "هذه المسرحية لا تزيف واقعنا العربي، وانما تمس أوتار المتفرج وتفتح عينيه على أكثر مآسيه. هناك مأساة الفرد العربي مع الجهل، والمسرحية تصور ذلك الجهل بذكاء فني حاذق. تصوّر جهل أبناء الشعب الذين يسقطون فريسة لمتعهدي المسيرات الشعبية، ذلك الجهل الذي يجعلهم فريسة لكذب المتكالبين على الحكم ونفاقهم، ذلك الجهل الذي يشجع على اصدار بلاغ رقم واحد وعلى استهتار الاعلام بالمواطنين". وأضافت الكاتبة: "انه لعمل درامي رائع ان يصبح الراديو بطلاً من ابطال مسرحية معاصرة، خصوصاً وأننا شعب ما يزال يحارب بالترانزستور، وما يزال يستمع إلى الراديو رغم أكاذيبه واستهتار العالم العربي بالجماهير. الشعب الجاهل يمارس في عيشه أساليب تأتي بالحاكم الجاهل وحده إلى الحكم. والحاكم الجاهل يكرّس جهل الشعب، وهكذا دواليك في حلقة جهنمية لا تنتهي. وهذا جانب أساسي من الحقيقة التي لا يمكن لأي عمل فني ان يستوعبها كلها، وكل ما انتجه الفكر الإنساني هو مزيد من الاقتراب منها والكشف عن هويتها".

في "الشبكة"، قدم جان شهيد عرضاً تفصيلياً للمسرحية، وامتدحها بإعجاب بالغ، وخلص إلى القول: "الأخوان رحباني وفيروز لهم عالمهم الخاص، مسرحهم الخاص، وفنهم الخاص. انهم في مسرحهم مثلهم في اغنيتهم، لا شرق فيها ولا غرب، ولا شمال ولا جنوب، بل دولة رحبانية فيروزية قائمة بذاتها". في المقبل، في "الجمهور"، نقع على مقالة من توقيع "ميم راء" تنقل كذلك احداث المسرحية، وتضيف في تعليقها: "المسرحية لم تكن جديدة بقصتها ولا بالعقدة التي تدول حولها فالقصة تتردّد في كل بيت لبناني، والعقدة يعرفها كل بلد عربي، وكل ما قام به الرحبانيان هو انهما نقلا ما يدور في المجتمعات من أحاديث سياسية، إلى المسرح. فشاهدنا عمليات الرشوة، وأسباب قيام التظاهرات، وما يردّده الشعب، وما يفكر فيه الحكام والموظفون والمستغلّون والمطبّلون والمزمّرون. ميزة الرحبانيين في يعيش يعيش انهما عكسا كل هذه الحقائق على المسرح بقالب حاولا فيه ان يكون ساخرا، لاذعا، فوفّقا بذلك، بل وحلّقا الى أسمى ما يتمنّاه مشاهد، وخاصة في أيامنا هذه". رأى صاحب المقال ان المسرحية تبدأ "مع جمهور من شبيبة الأرصفة الشبيهة بمقاهي الحمرا، وكل منهم ينصت الى راديو ترانزستور، ليتتبع اخبار انقلاب قام في ميدا أطاح بالإمبراطور وحكومته"، وان " الدكان يرمز إلى وضع لبنان"، وقال في الختام: " أخيرا يعيش يعيش كانت عملا من اعمال الرحبانينن التي تعودنا ان نشاهدها، ونسر بها، لانها تعطي الجمهور نوعا من الحقائق التي يبحث عنها، ويجدها بصراحتها المتناهية على مسرح الرحبانيين".

في "ملحق النهار"، كتب فاضل سعيد عقل، مقالة تحليلية طويلة حول هذا العمل، ورأى في هذه القراءة ان "البطل الرحباني يتعرّى ممّا يشده إلى الواقع والضعف والمشاكل اليومية ليجعل من تلك المشاكل والضعف والواقع سلّماً الى الانبعاث والتجدّد، سياسياً واجتماعياً وانسانياً". اعتبر الكاتب ان عاصي ومنصور كانا عند مستواهما، هذه المرة أيضا، وربما أكثر من أي مرة سلفت". وأضاف: "فنهما بقي رفيعاً، بل ازداد رقّةً وقوةً وعمقاً. الفولكلور تضاءل حجماً وتراجع مظهره عن الخط المألوف، لكّنه ازداد زخماً بالمعنى وبقيت نكهته عبيراً مكتوماً. الرحبانيان يوقظان الى جانب التحسّسات الجمالية في الفن والأدب، الضمير الوطني الذي يعمل سواهم، من حاكمين واداريين ومحترفي سياسة ودكاكين، على طمسه. لكن الحقيقة لا تُطمس. وستنتصر مهما عمل العاملون على تصعيد الانقلابات عليها. الانقلاب الوحيد الذي ينجح عندنا، الانقلاب الضروري والوحيد الذي لا بدّ منه، هو عندما يقتنع كل فرد من افراد هذا الشعب الطيّب، المستسلم أكثر من اللازم لقوة العجائب والصدف والصداقات، عندما يقتنع كل مواطن، حكاما ورعايا، والحكام قبل الرعايا، بأن لبنان، أي فكرة لبنان الأمّة والوطن والدولة، يجب ان يكون فوقهم جميعا، حتى يكونوا هم على الوجه وفي الصدارة بدل ان يظلّوا دائما في القعر".

في إشارة ملفتة، لاحظ فاضل سعيد عقل بأن الواقع الذي تنقله المسرحية "ليس الواقع اللبناني مئة في المئة، بل هو بالأحرى بعض الواقع العربي الفوضوي الكاريكاتوري البعيد من واقعنا الديمقراطي، لكنه يعطي تذوقا أوليا لما يمكننا ان نمسي فيه إذا رضخنا للأغواء، والرضوخ هنا صعب، فالانقلابات ليست من تقاليد لبنان ولا من طباع شعبه". في الواقع، تذكر أحداث المسرحية بواقع الجمهورية السورية التي عاشت على وقع الانقلابات منذ عهد الاستقلال، من انقلاب حسني الزعيم، الي انقلاب سامي الحناوي، الى انقلاب الشيشكلي الأول، وصولاً إلى انقلاب الشيشكلي الثاني، ثم انقلاب 1954، وبعده انقلاب 1961، ثم انقلاب 1963 الذي تلاه انقلاب 1966. من المفارقات المثيرة، قدّم الأخوان رحباني على خشبة معرض دمشق الدولي كل أعمالهما المسرحية التي قامت ببطولتها فيروز، باستثناء "أيام فخر الدين" و"يعيش يعيش"، ونخال ان غياب المسرحيتين عن معرض دمشق الدولي يعود إلى أسباب تتّصل بالرقابة بالدرجة الأولى.

تلك هي مسرجية "يعيش يعيش"، وهذا بعض من الفيض الذي قيل فيها عند عرضها. تبدأ هذه المسرحية بانقلاب يؤدي إلى فرار الإمبراطور، وتنتهي بانقلاب على الانقلاب يؤدي إلى عودة الإمبراطور إلى الحكم في شخصية جديدة، وتغني فيروز في الختام: "طلع المنادي ينادي مافيهاش إفادة/ الرعيان بوادي والقطعان بوادي/ عم يمشوا بِواديهن والليل كبير/ واديهن كراسيهن ويخافوا تطير/ والريح تمرجح فيهن تاخدهن وتلوّيهن/ حاجي تصرخ يا منادي من وادي لوادي".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها