الجمعة 2020/09/25

آخر تحديث: 18:14 (بيروت)

أجساد تُربِك "السيد"

الجمعة 2020/09/25
أجساد تُربِك "السيد"
خلدون محمد يحمل صورة ابنه الذي فُقِد في البحر خلال رحلة غير شرعية من طرابلس اللبنانية إلى قبرص (غيتي)
increase حجم الخط decrease
السلطة في لبنان أمام معضلة جديدة، حيرتها فائقة. أجساد اللبنانيين تتحداها. تربكها عنوة. غصباً عن إجراءات أهل السلطة، وأحياناً رغماً عن إرادة أصحاب الأجساد أنفسهم. هذه المرة، هي ليست أجساد الثوار في الشارع، ولا تلك المُلتحمة في اشتباكات غير متكافئة مع القوى الأمنية والعسكرية، ولا المنخرطة في تكسير واجهات المصارف والمقار الرسمية. إنها الأجساد التي ترتمي في لجّة البحر، عائمةً بزوارق مطاطية هزيلة، يهدهدها الحلم بأوطان بديلة وعَيش أكرم. وهي الأجساد التي يغزوها كورونا في عقر دار منظومة السيطرة وفضائها التأديبي الأول، أي السجن.


السلطة مصابة بمسّ، كوكتيل انفعالات: خبل، غضب، عشوائية، تخبّط،...
حتى الأزمة الاقتصادية الاجتماعية والمالية والسياسية لم تفعل في السلطة ما فعلته تلك الأجساد المتمردة خلافاً للطبيعة. لا الدولارات المسروقة، ولا التضخم المالي، ولا حتى انفجار المرفأ استدعى قرارات واضحة، مُجدوَلة، وقابلة للتنفيذ السريع، كما استدعت موجات الهجرة غير الشرعية من لبنان في اتجاه قبرص، وتفشي كورونا في سجن "رومية".

فلئن كان تشكيل الحكومة العتيدة هو الخطوة الأولى على طريق ألف ميل التعيينات والإجراءات والاتفاقيات لاستدرار بعض من صَدَقات المجتمع الدولي، أملاً في حلولٍ أقصَرُ آجالها يُقاس بالسنوات، فإن السلطة تأخذ وقتها وتتمهل في التشكيل، وكأننا في حضن استقرار ورفاه. يتدلل أقطابها، يتناكفون، ويعضون أصابع بعضهم البعض، من أجل وزارة، أو أموال منقولة بالقدرة الإلهية، أو حتى نووي إيراني أهل بيته مُعاقَبون ويتم التفاوض عليه في الساحة اللبنانية المفتوحة. أما الأجساد اللبنانية في بحر التهريب، وفي سجون الكورونا، فقد وضعت قانون العفو العام المثير للجدل والمؤجل منذ سنة على الأقل، على جدول أعمال الجلسة المقبلة لمجلس النواب، وزادته حظوظاً وجدّية، كما استنفرت في السلطة مواهبها الأمنية التي ما عدت تملك غيرها على ما يبدو.

وإذا كانت الدول المعروفة تاريخياً باستقبال اللاجئين، دول العالم الأول التي يحاول بعضها الآن الحدّ من تدفق المهاجرين إليها، لا تحصر إجراءاتها في هذا المجال في السياق البوليسي، بل تمدّ الدول المُصدّرة للاجئين، والمنظمات العاملة على أراضيها، بالدعم المالي والعيني، الغذائي والتعليمي والصحي، لاستبقاء الفارين في أماكنهم، ففي الاجتماع الأمني الأخير في القصر الجمهوري، ظلت "الزاوية الإنسانية" التي تحدثت عنها السلطات اللبنانية "لمعالجة" أزمة هجرة مواطنيها غير الشرعية عبر البحر، هراءً لفظيّاً.. هو نفسه الذي يُقارب به عموم الانهيار الوطني. في حين انفلشت المعالجة الأمنية في الاتجاهات كافة: تكليف المديرية العامة للأمن العام التواصل مع السلطات القبرصية لوضع الإجراءات اللازمة لاسترداد المهاجرين، تكثيف العمل المخابراتي والاستقصائي لكشف الشبكات التي تعمل على تهريب الأشخاص، تكثيف الدوريات البحرية ضمن الإمكانات المتوافرة والتنسيق مع قيادة " اليونيفيل" لرصد الزوارق، وتكليف قيادة بإنشاء مركز خاص للبحث والإنقاذ بالتعاون مع الوزارات المعنية، لا سيما وزارة الاشغال العامة والنقل.

الدولة، المفترض أن لسلطتها ذراعين اثنين، واحدة احتوائية حاضنة، وأخرى تأديبية كابحة، بترت الأولى بدم بارد، وأطلقت الثانية على عواهنها. المدارس، المستشفيات، السجون، بما هي مؤسسات وديناميات مُنشأة في الأساس لضمّ الذوات والأجساد من أجل توليف أفكار وسلوكيات تنتج مواطنين بأفكار ورغبات ومصالح منسجمة مع القانون ورافدة للانتظام العام، باتت بؤراً في حد ذاتها لا يتم التعامل معها إلا من باب الاستبداد والازدراء، بالمعنيين الفعلي والرمزي. ورغم الجدليات المتشعبة حول أدوار المؤسسات هذه، وأحقية أساليبها وأهدافها وانعكاسها على الفرد وإرادته الحرة في المجتمع الحديث، فإنها تبقى الأركان الأساسية المتعارف عليها حتى الآن لأوطان صالحة للعيش بالحد الأدنى. لكن "السيد الملك" اللبناني، الذي يختزل في مفهومه الفئة المهيمنة، يأبى إلا أن يتصرّف كما في عهود الحكّام المُطلَقين من تاريخ غابر، حيث لمالك السيادة الكاملة على الأرض والبشر أن يصادر كل شيء: حيوات الناس، الثروات، الخدمات، العمل، والإنتاج. في تلك العهود، كانت الجريمة تُعدّ إساءة للحاكم نفسه، ولذلك كانت العقوبة قاسية وعلنية، لردع الآخرين والتأكيد على سلطة المتسلّط.

بالمنطق هذا، تُعالَج الهجرة الاقتصادية اللبنانية المستجدة، وكورونا السجون التي يُحمّل السجناء مسؤولية تفاقمها بحسب "لجنة الرعاية الصحية في السجون لمواجهة وباء كورونا" التي أوردت في بيان أن "السجناء غير متعاونين مع إدارة السجن في ما يتعلق بالتدابير الوقائية. فمنهم من يرفض الذهاب إلى مبنى العزل، ومنهم من يرفض تغيير غرفته، ومنهم من يرفض إجراء فحص PCR، ومنهم من يدّعي الإصابة، لمحاولة الحصول على عفو عام، وهذا ما يشكل العائق الأول لمواجهة كورونا في السجن".

السلطة لا تكتفي بتجاهل ذِكر التأثير الكبير، في موضوع كورونا، للأوضاع المأسوية القديمة والمستمرة في السجون اللبنانية، لا سيما على مستوى الاكتظاظ وتداعي البنى التحتية، إضافة إلى النقص الحاد في المستلزمات الطبية وآليات العلاج. بل تخلط أوراقها كلاعبة "بوكر" فاشلة، يدُها التشريعية تضع قانون العفو العام في الواجهة.. فيما يدها الأمنية تحيل عدم انصياع السجناء لإجراءات تنقذ حياتهم، إلى أملهم في هذا العفو. وهي السلطة التي رُكّبت أصلاً بمفاعيل عفو العام 1991، بعد الحرب الأهلية، وهي الدولة التي، باهترائها وهراواتها، تقتل مواطنيها في البيوت والشوارع والسجون والبحر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها