الأربعاء 2020/09/02

آخر تحديث: 10:56 (بيروت)

بركة أندلسيّة

الأربعاء 2020/09/02
بركة أندلسيّة
increase حجم الخط decrease
هرول الصحافيّ إلى البنت الواقفة أمام دكّان ضيّق. «صحافة»، قال، «أنا محرّر جريدة الرشّاش المتطوّرة... كلّ زملائي سيكتبون عن المسؤول ويصوّرونه. أمّا أنّا، فسأكتب عن المسؤول وأصوّرك أنتِ». وحين سألت الفتاة الخجول عن السبب، قال: «بدّي أخلق منّك قضيّة». وإذا بزميل له يهتف: «اسمها هيفا. وهيفا من هيفاء، القامة الجميلة، مذكّرها أهيف، على وزن أفعل، ممنوع من الصرف».

إسمها هيفاء، مذكّرها أهيف. لكنّ اسمها أيضًا فيروز. ولها أسماء كثيرة: عطر الليل وزاد الخير وقرنفل وماريّا. فهي تشبه المدن العريقة والبحور العميقة والغمام الوسيع والنبيذ المعتّق. وهذه الأشياء التي تصنع الفرح لا يختصرها اسم واحد. ولكنّ فيروز ليس اسمها الحقيقيّ. فاسمها الحقيقيّ هو نهاد... نهاد حدّاد. والحكاية تعزو الاسم المستعار إلى حليم الروميّ. وتقول الحكاية إنّ الروميّ، الذي كان يؤلّف موسيقاه على وقع الموج في بحر حيفا، حين سمع صوتها، ذهب إلى عاصي وقال له: «هذه نجمة الكتب، بصوتها ستغيّر كلّ شيء في هذا الشرق».

لكنّ فيروز هو اسمها الحقيقيّ أيضًا. هو الإسم الذي سيلتصق بها كما يلتصق الرحيق بالنحلة. وهو الإسم الذي سيدخل إلى تفاصيل حياتنا اليوميّة، فيحوّل كلّ شيء سواه إلى تفصيل.

تتحوّل الأشياء. ويتحوّل الدكان المتواضع إلى دارة شامخة في الرابية شمال بيروت. كيف يحدث هذا؟ هذا منطق الأحلام الكبيرة التي تتبدّل فيها الأشياء وكأنّها تتّكّئ على صفحات الماء في بركة أندلسيّة. وحدها الأحلام الكبيرة تغيّر الأشياء. تتسلّل إلى ثنيّات حياتنا، وترسم فيها واحاتٍ للجمال، وواحاتٍ للفرح. ولذا، فإنّ الحلم الذي رسمه عاصي ومنصور بصوت فتاة الدكّان ذات الأسماء الكثيرة أقوى من الواقع، لا لأنّه يستقيل من الواقع، بل لأنّه يفتح فيه كوّةً لحقيقة من نوع آخر، حقيقة الشعر والموسيقى التي من دونها نعطش ونذبل ونموت.

والصحافيّ يتحوّل أيضًا. يتحوّل إلى رئيس لجمهوريّة فرنسا، التي تنام على الخمر في قصائد بودلير وتصحو على انحناءات البرتقال في لوحات بول سيزان. قال إنّه جاء باسم كلّ صحافيّي الأرض الذين مُنعوا من القدوم إليها. قال إنّه جاء كي يتأمّل الأيقونات البيزنطيّة على الحائط وفي مرايا العيون. قال إنّه جاء كي يخلق منها قضيّة. لن يكتب عن المسؤول، ولن يصوّره. فهي أهمّ من كلّ المسؤولين على وجه الأرض، وأهمّ من كلّ الحكّام، وأهمّ من كلّ الساسة. لم يعرف أحد ما هي القضيّة التي أراد تفجيرها بزيارته. قالوا وقالوا عن «رمزيّة» الزيارة. كتبوا وكتبوا عن الحلم الفيروزيّ الذي انكسر بين مطرقة الفساد وسندان الإفلاس. ولكنّهم لم يقولوا إنّ فتاة الدكّان التي تحوّلت إلى امرأة في العقد التاسع من عمرها هي التي خلقت قضيّةً من الصحافيّ الذي تحوّل إلى رئيس جمهوريّة لبلد الحرّيّة والأنوار وأوضح لغة في العالم. خلقت منه قضيّة، وغنّت له أغنية، ثمّ عادت إلى المكوث في متاهة صمتها بين الزوايا العطرة والأرائك الأنيقة والأيقونات التي تنزّلت علينا من عالم آخر.

ما الأغنية التي غنّتها المرأة للصحافيّ؟ تقول الحكاية في «يعيش يعيش» إنّها من زاوية الغناء القديم. دور «أنا هويت وانتهيت» للعظيم سيّد درويش غنّت منه فيروز مطلعه القصير، ثمّ سكتت. كان القانون يسابق خلجات صوتها السندسيّ، ونقرات البيانو تستحضر لفتات عصفور ينقد بخفّة حبيبات القمح الذهبيّ. تريدون أن تعلموا ما هي هذه الموسيقى التي غيّرت وجه الموسيقى في هذا الشرق؟ أصغوا إلى امتزاج القانون بالبيانو في «أنا هويت» كما غنّتها فتاة الدكّان. حضر سيّد درويش حاملاً معه بحر الإسكندريّة على راحتيه. وحضر عاصي يمتشق بزقًا من خشب جوزةٍ استقت نسغها من غوطة دمشق. وحضر منصور يحمل برتقالةً من بستان في أنطلياس تحوّل إلى باطون. ثمّ هتفوا بإيمانويل ماكرون: «سيّدي الرئيس ها نحن قد عدنا من جديد nous voilà de nouveau». خرج الصحافيّ من الدارة الحلوة في الرابية المطلّة على المتوسّط وهو يتعثّر بالحيرة. كان الناس في انتظاره خارجًا يطالبونه بالتحوّل. فوحدها الأحلام الكبيرة تتبدّل فيها الأشياء وكأنّها تتّكئ على صفحات الماء في بركة أندلسيّة...
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها