الثلاثاء 2020/09/15

آخر تحديث: 16:39 (بيروت)

معلّم التلحيم

الثلاثاء 2020/09/15
معلّم التلحيم
حريق مجمع تجاري في وسط بيروت.. ومثل انفجار المرفأ، قيل أنه بسبب أعمال تلحيم (غيتي)
increase حجم الخط decrease
... وقد خُلِق للبنانيين عدو جديد. بعد أمراء الحرب والطوائف، والمنظومة الحاكمة ورجال الأعمال والمصارف، بعد الفساد والإهمال والدولة البائسة المتسلطة، والسلاح والكورونا والفقر والغلاء... 


إنه معلّم التلحيم. عدو هلامي، لكنه كامل الأوصاف. فرد، أفراد، والعملُ عملُ مؤسسة. رجل واحد بوَزن دولة، عصابة. عنصر بلا إرادة، وإرادة كلّية كامنة خلف كل مصيبة. قادر وبسيط. جهنّمي مثل أسطورة. مفهوم مثل حِرفة عامل مياوم، ويا حبذا لو كان "غريباً" (يُفضّل السوري والفلسطيني) و"متطرفاً". لقد أخبرتنا التحقيقات في قضية انفجار المرفأ في 4 آب، أن واحداً من عمّال التلحيم الثلاثة السوريين تعلّم الصَّنعة عبر الانترنت (بوحي من فيديوهات "إصنعها بنفسك": متفجرة شغل بيت، نظيفة وفعالة). بل ووضع اسم مدير المرفأ في محرك البحث في هاتفه (إدوارد سنودن يلتحم بأبي بكر البغدادي). خيالات "القاعدة" و"داعش"، وأسحار الانترنت للمبتدئين، لا تذهب سدى. أسوة بالنفايات اللبنانية والأغاني المسروقة، لا يُعاد تدوير الفيلم، بل يُرمى هكذا كما هو في الشارع اللبناني، وإن لم يقتلنا، غزا دخانه صدورنا.

من انفجار 4 آب، إلى حريق مبنى زها حديد في وسط بيروت، مروراً بحرائق المرفأ المتكررة... إبحثوا عن معلّم التلحيم، مُطلق الشرارات بلا هوادة، سلاح الدمار الشامل الذي أُفلِت علينا بلا مقدّمات.... وجسمه لبّيس هذا الكائن. قد يكون "ذئباً متوحداً"، على غرار مُرهبي أوروبا وأميركا. واحتمال انضوائه في شبكة منظّمة، قوي أيضاً، لهواة النوع. وهو الصدفة المحضة، الغلطة البريئة المميتة، السهو في حقل ألغام، لغز الجريمة، والقدَر الذي يُسقط أمّة.

نعرفه جميعاً. هو من مصاف السنكري والكهربجي الذي نلغي مواعيدنا وننتظره في البيت، ولا يأتي. ثم يحضر لحظة يريد، يحشرنا بين مواعيده الكثيرة وعُجالاته، ويشتغل "بضميره"، وفاتورته فاتورة طبيب غير قابلة للفصال. وفوق هذا كله، لا نملك أن نزعّله. فلا أحد يعلم متى نحتاجه مرة لعُطل طارئ (بسبب قطع غيار مقلّدة هو الذي ركّبها؟). ولا يسعنا أن نتخيّل أنه قد يتركنا لمصيرنا مع ما لا نفقه من أنابيب وأسلاك.

كلنا، في اللاوعي، له ثأر نفسي على هذا المعلّم، فكيف إن حرق بيروت؟!

ومعلّم التلحيم، مثل معلّمين كثر يدخلون بيوتنا ومكاتبنا، قد يختزل الطبقات الاجتماعية والطوائف والجنسيات. هو البروليتاريا المظلومة في أذهان البعض، أو الانتهازي الذي عمّر بيتاً في الضيعة قبلنا. هو الوسخ الذي نهرع، بعد خروجه، لمسح آثاره بالمعقّمات. والمسكين الذي نحمّله في العيد كيس ثيابنا المستعملة. وهو الذي نحاول أن نستدرجه لمعرفة طائفته إن لم نتمكن من تخمينها من الاسم مباشرة، إذ يحب اللبناني أن يعرف جيداً مَن يدخل مطبخه وحمّامه.

كلنا، في الخطاب العام، يشفق على مهنيين أقل حظوة منا، ثم ننسى كل مشاعرنا المركبّة اتجاههم ما إن يغادروا مجالات رؤيتنا. لكنه الآن المعلّم الذي يأبى أن يختفي. كقاتل متسلسل، يطلّ بنيرانه، كل بضعة أيام، ويجبرنا على التعامل مع "شخصه". هو الآن المخرّب الأول. وحين نضحك من بَلوانا، نتخيّله مخرّباً متمرداً، ثائراً معنا، فنرسمه مبعوثنا لعمليات تلحيم في قصر بعبدا أو عين التينة. أو ننصّبه المهيمن المتحكّم في مصائرنا، فنُلبسه وجه حزب الله.

معلّم التلحيم، هزل لبنان وهزاله. خلاصة مكر الأجهزة الأمنية، وغبائها، واستغبائها لنا. الخيال الضئيل إلى درجة الإبداع، على غرار المينيمالية في الفنون. هو الحجّة الوحيدة والمتكررة لتبرير مسلسل من الحرائق في مرافق عامة وخاصة، كأنه آخِر الحجج ومنتهاها، والتي، في استهلاكها هكذا على غاربها، تمسي أشبه بمُكرَّرات آندي وارهول، وتكرارات جيل دولوز: التكرار الذي ينتج المختلِف، المتخالِف. ذلك أن معلّم التلحيم يحرق المعقوليات الأخرى، أقلّه في ما يخص حرائق ما بعد انفجار 4 آب: الحريق المتعمّد لتقاضى مبالغ التأمين على بضائع أتلفها حريق المرفأ الأول، أو لا سوق لها الآن لأي سبب من الأسباب. الحريق المفتعل في مبنى باهظ الكلفة في وسط بيروت، لم يُنجز بعد، ولن يردَّ ما أُنفق عليه، ناهيك عن تحقيق الربح، وهنا أيضاً احتمال تعويضات التأمين. الحريق الترهيبي، التفاوضي، الضاغط، المقاوِم.. لأسباب سياسية وأمنيّة، بل وربما إقليمية. الحريق الجنائي، الكيدي. أو، بكل بساطة، غياب معايير السلامة العامة في تلك الورش المشتعلة بالهمّة والنشاط التلحيمي.

لكن لا، معلّم التلحيم فكرة، ولامعة أيضاً. أرضية إلى الحدّ الذي يجعلها فضائية. والأفكار لا تُبادَل بما قد نفكّر فيه من بلهوانات البوليسية. معلّم التلحيم، أكبر من أن تبتلعه البداهة، وأصغر من أن يُقسّمه التحقيق.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها