إحالتها هذه سببها التالي. فرواية لوي تخبر عن علاقته طفلاً بأبيه في مسقط رأسه، بيكاردي. الأب من اليد العاملة، عيشه مدمر، عنيف مع لوي، الذي، وبدوره، ينظر اليه بحب وخوف وكره، أو برهبة على العموم. يفتش الابن على طول سرده، عمّن حطم جسد أبيه، عمّن منعه عن جعله يمضي عيشه ذاك في العوز، من دون استحصاله على حقوقه الرئيسية، وعلى طول سرده أيضاً، يبحث الابن عن موقعه من ذلك الجسد المحطم. على أن رواية فورتمز، تسرد العكس، أي علاقة أب، باسكال، وهو عامل في مصنع من مصانع الأردين، بإبنه، لوي، الذي يتصف بكونه مهذباً، متفوقاً مدرسياً، قارئاً نهماً. لكن، فجأةً، يجد الاب أبنه جثةً في نهر، وسرعان ما يكتشف أنه انتحر. في إثر موته، يمضي الى البحث عنه، بمعنى البحث عمّن كان ابنه، ولماذا أقدم على قتل نفسه-من قتل ابني- وفي هذه الاثناء، يكتشف أنه لم يعرفه يوماً.
على هذا النحو، رواية لوي تسرد بلسان الابن، العلاقة بالاب، ورواية فورتمز، تسرد بلسان الأب، العلاقة بالابن، وفي الحالتين، ثمة رواية لشيء محدد فيها، وهو كونها تنطوي على فجوة واسعة، تودي الى انعدامها. بعبارة ثانية، وهذه من مشتركات الرواية الاجتماعية، سرد فورتمز، وكسرد لوي، لا يتناول تلك العلاقة سوى باعتبارها ميتة، باعتبارها منقطعة. فبين عالم الاب وعالم الابن، ثمة الفجوة إياها، التي تبعدهما عن بعضهما البعض، بحيث لا يعود هناك أي اتصال بينهما.
لكن، تقدم رواية فورتمز كنموذج الرواية الاجتماعية لا يتعلق بكونها تحيل الى رواية لوي، أو إلى كونها تتناول الانقطاع المجتمعي فقط. بل إنها، وفي نهايتها، في نهاية إبانتها لمن كان الابن، تطرح مسألتها الأساس: مراهقة مختلفة جنسياً من الطبقات الشعبية في منطقة صناعية مهمشة. وفي نتيجة طرح هذه المسألة، يتحول السرد، ومن دون أن يقع في فخ التبسيط الوصفي، الى ما يشبه وثيقة سوسيولوجية عن معاش بعيد، لا يمكن سوى التوقف على العنف والضيق فيه، وهما يتجاوران مع ديناميكيته وحيويته. فهذه الوثيقة هي وثيقة عن معاش يلازمه البحث عن منفذ من أجل تغييره، وحين لا يحمل الى الوقوع عليه، يودي الى خلقه تراجيدياً.
لقد تمكن ديفيد فورتمز من تقديم هذا المعاش، من وضع وثيقته، وقد فعل ذلك-وهنا، أيضاً من مشتركات روايته مع الرواية الاجتماعية- بالتنبه الى أدق تفاصيله، أكانت تتعلق بلغته، لغة الابن مع صحبه مثلاً، أو تتعلق بحركة جسد الأب، أو بانفعالاتهما حيال بعضهما البعض. والتنبه الى هذه التفاصيل، وربطها بمواربة رشيقة، هو ما يجعل الرواية إياها بعيدة عن كونها جافة، أو بعيدة من كونها مجرد "تقرير رسمي" يصدر عما يدعى سوسيولوجياً بـ"المسح"، بل أنها، وعلى خلافه، نص أنيس. فلا يترك شخوصه في وحشة سرده... ولا قرّاءه أيضاً.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها