السبت 2020/09/12

آخر تحديث: 12:14 (بيروت)

ديفيد فورتمز والرواية الاجتماعية المقبلة

السبت 2020/09/12
ديفيد فورتمز والرواية الاجتماعية المقبلة
increase حجم الخط decrease
منذ أربع سنوات، أو أقل، يسجل صعود للرواية الاجتماعية في سوق الأدب الفرنسي. وهذا الصعود، وإن كان، وفي الغالب من الأحيان، عودة للرواية نفسها بعدما تلاشت على مدى أكثر من عقدين في إثر ذيوع ما يمكن تسميته "رواية التيه"، إلا أن ينطوي على جِدّة بالتأكيد. هذه الجِدّة لا تتعلق بعمر مزاولي تلك الرواية، بحيث أن معظمهم ولد في تسعينات القرن المنصرم، أو على مشارفها، بل تتعلق أيضاً بطريقتهم إذا صح التعبير.

طبعاً، هي ليست طريقة واحدة، بحيث أنهم يستندون اليها جميعهم، لكنها طرق عديدة تدور حول مشتركات بعينها. هذه بعضها: الابتعاد بالسرد عن المركز الباريسي، توجهيه من الطبقات الشعبية، تسييره بالمباشرة أو بالأحرى "تحبيكه" بسهولة، جعله يشتغل، وعلى الدوام، بين الانقطاعات، بمعنى حول كل العلاقات والصلات المجتمعية المتسمة بكونها مبتورة. بالإضافة إلى دورانه كأوتوبيوغرافيا، أو بيوغرافيا، أو على شكل قريب من هذا الشكل، الذي يشتمل، أولياً، على قضايا جنسانية وسياسية.

في هذا المطاف، وقبل شهر تقريباً، صدرت رواية لديفيد فورتمز (دار روبر لافون) بعنوان "لوي يريد المغادرة"، وهي، فعلياً، بمثابة نموذج عن الرواية الاجتماعية الجديدة، أو لنقل المقبلة، طالما أن تجربتها متواصلة. فتنطوي على كل تلك المشتركات، وتبيّنها طوال صفحاتها. أول هذه الإبانة، وربما أكثرها وضوحاً، أن قراءة رواية فورتمز سرعان ما تحيل الى روايات غيرها، وعلى رأسها، رواية إدوار لوي "من قتل أبي".

إحالتها هذه سببها التالي. فرواية لوي تخبر عن علاقته طفلاً بأبيه في مسقط رأسه، بيكاردي. الأب من اليد العاملة، عيشه مدمر، عنيف مع لوي، الذي، وبدوره، ينظر اليه بحب وخوف وكره، أو برهبة على العموم. يفتش الابن على طول سرده، عمّن حطم جسد أبيه، عمّن منعه عن جعله يمضي عيشه ذاك في العوز، من دون استحصاله على حقوقه الرئيسية، وعلى طول سرده أيضاً، يبحث الابن عن موقعه من ذلك الجسد المحطم. على أن رواية فورتمز، تسرد العكس، أي علاقة أب، باسكال، وهو عامل في مصنع من مصانع الأردين، بإبنه، لوي، الذي يتصف بكونه مهذباً، متفوقاً مدرسياً، قارئاً نهماً. لكن، فجأةً، يجد الاب أبنه جثةً في نهر، وسرعان ما يكتشف أنه انتحر. في إثر موته، يمضي الى البحث عنه، بمعنى البحث عمّن كان ابنه، ولماذا أقدم على قتل نفسه-من قتل ابني- وفي هذه الاثناء، يكتشف أنه لم يعرفه يوماً.

على هذا النحو، رواية لوي تسرد بلسان الابن، العلاقة بالاب، ورواية فورتمز، تسرد بلسان الأب، العلاقة بالابن، وفي الحالتين، ثمة رواية لشيء محدد فيها، وهو كونها تنطوي على فجوة واسعة، تودي الى انعدامها. بعبارة ثانية، وهذه من مشتركات الرواية الاجتماعية، سرد فورتمز، وكسرد لوي، لا يتناول تلك العلاقة سوى باعتبارها ميتة، باعتبارها منقطعة. فبين عالم الاب وعالم الابن، ثمة الفجوة إياها، التي تبعدهما عن بعضهما البعض، بحيث لا يعود هناك أي اتصال بينهما.

لكن، تقدم رواية فورتمز كنموذج الرواية الاجتماعية لا يتعلق بكونها تحيل الى رواية لوي، أو إلى كونها تتناول الانقطاع المجتمعي فقط. بل إنها، وفي نهايتها، في نهاية إبانتها لمن كان الابن، تطرح مسألتها الأساس: مراهقة مختلفة جنسياً من الطبقات الشعبية في منطقة صناعية مهمشة. وفي نتيجة طرح هذه المسألة، يتحول السرد، ومن دون أن يقع في فخ التبسيط الوصفي، الى ما يشبه وثيقة سوسيولوجية عن معاش بعيد، لا يمكن سوى التوقف على العنف والضيق فيه، وهما يتجاوران مع ديناميكيته وحيويته. فهذه الوثيقة هي وثيقة عن معاش يلازمه البحث عن منفذ من أجل تغييره، وحين لا يحمل الى الوقوع عليه، يودي الى خلقه تراجيدياً.

لقد تمكن ديفيد فورتمز من تقديم هذا المعاش، من وضع وثيقته، وقد فعل ذلك-وهنا، أيضاً من مشتركات روايته مع الرواية الاجتماعية- بالتنبه الى أدق تفاصيله، أكانت تتعلق بلغته، لغة الابن مع صحبه مثلاً، أو تتعلق بحركة جسد الأب، أو بانفعالاتهما حيال بعضهما البعض. والتنبه الى هذه التفاصيل، وربطها بمواربة رشيقة، هو ما يجعل الرواية إياها بعيدة عن كونها جافة، أو بعيدة من كونها مجرد "تقرير رسمي" يصدر عما يدعى سوسيولوجياً بـ"المسح"، بل أنها، وعلى خلافه، نص أنيس. فلا يترك شخوصه في وحشة سرده... ولا قرّاءه أيضاً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها