الأحد 2020/08/09

آخر تحديث: 10:00 (بيروت)

محمد خضير.. زورق الأحلام، الفن لحظة الانفجار

الأحد 2020/08/09
increase حجم الخط decrease
بينما كان الفنان اللبناني عابد القادري يعرض سلسلة لوحاته (Nyctophilia = اللوحات السود) في غاليري تانيت Tanit، حدث انفجار مرفأ بيروت، فاطفأ النورَ الذي حلُمَ به القادري. كان متفائلاً بافتتاح حلقة من هذه السلسلة تحمل عنوان "بقايا آخر وردة حمراء"، حين أطاح بها العصف، وتناثر رفاتها أمام عينيه الذاهلتين. هاجسٌ تنبأ به الفنان القادري سيعصف بقاعة العرض وصاحبتها Naila Kettaneh Kunigk مع فريق العمل، وباحَ به قبلاً: "إذا كان العالم مكاناً مظلماً، فإن لبنان مركزه".
تلاشى صدى الانفجار، إلا أنّ خواءً شمل عاصمة الفن، وامتدّ زاحفاً من الساحل المنكوب إلى عمق قاعات الفن الفخمة، وتذرّى مع زجاجها، فصارت العيون تلتفت نحوه بغضب وذهول، وتتبرّع لملئه بالنصوص واللوحات. هنا، يأتي ما نحسبه تعاطفاً بانورامياً، مجتزأً من "جدارية" لا حدود لإمتدادها وامتثالها لحوادث متفرقة من العالم. فما تبرّع به الفنان العراقي صادق كويش من عمل (منفَّذ بالحبر الأسود والأكريليك على ورق، عنوانه: أنا زورق أحلامي) لقاعة تانيت ومجموعة الفنانين العاملين فيها، يُعَدّ جزءاً مقتطعاً من لوحات التضامن الكبرى مع نكبات ماضية، كنكبة مخيم صبرا وشاتيلا، وملجأ العامرية، وسقوط بغداد، وغيرها من مآسٍ عربية خُتِمَ بها القرن الماضي. وكان كويش من أبرز الفنانين الذين ارتقوا بالتنبؤات ونصبوها على الجدران، أو حركّوها بصرياً بواسطة الفيديو على شاشات عريضة. أما عمله الذي تبرع به إلى قاعة تانيت المخربة، فيتصل بمشاريعه الفنية حول القوارب والأهوار، وقد وجّه هذا العمل ليلتقي بحلم صديقه الفنان اللبناني القادري.

عملَ كلا الفنانين، كويش والقادري، على اللون الأسود، وانبثاقه من "يوتوبيا" شديدة الخصوصية، هي الوجه الآخر لوضع اجتماعي متأزم، من زاويتي نظر مختلفتين، وتقنيتين يتعامل بهما الأول (كويش) مع الأسود بصراحة كاملة، والثاني (القادري) من خلال ترشيح الضوء عبر ثقوب الليل بتكتم واحتراس. وبينما يتنبأ القادري بغرق لبنان في الظلام، فإن اللون الأسود يصبح "ملموساً". أما صادق كويش، الذي خلق مناخات شخصية واجتماعية لرؤياه عن الواقع العراقي، فقد حوّل اتجاه الزورق الأسود نحو البحر، واتصل بتنبؤ القادري "الملموس" الذي سبق انفجار مرفأ بيروت. أخرج كويش الزورقَ من ظلمة الأحراش ليدخل منطقة المرفأ اللبناني، بشخصه السابح، المقطوع الطرفين، تحت سُحب الدخان.

بصحبة اللوحات السُّود من تنبؤات الفن، الطافية على بحر بيروت، تهبط لوحة صادق كويش من الجدار العالمي الذي تغطيه جمالياتُ رؤيا "النهاية الآن"، نافذةً في عمق السنة 2020، المختزِنة سُحُباً مدمِّرة، تنتقل من بقعة إلى أخرى بشؤمها. أراد من وراء إهدائه اللوحة أن تصبح الأشكال السُّود أكثر "ملموسية" من أيّ شاهد آخر على الظلام والتوحش، وفي المقابل، أن تكون أثمن تعويض للوضع الإنساني المفتقِر للجمال والحياة الآمنة.

احترقت الوردة، ومن رمادها انعقدَ الرسمُ "الحبريّ" الذي أشرق كالفضّة على سطح البحر!
------------------
*اللوحة 1: للفنان العراقي صادق كويش "أنا زورق أحلامي".
*اللوحة 2: من مجموعة الفنان اللبناني عابد القادري "بقايا آخر وردة حمراء".

(*) مدونة نشرها الكاتب العراقي محمد خضير في صفحته الفايسبوكية
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها