الجمعة 2020/08/07

آخر تحديث: 14:19 (بيروت)

طوارئ على مين؟

الجمعة 2020/08/07
طوارئ على مين؟
"الحرس الجمهوري" في مواجهة متظاهرين غاضبين بعد انفجار مرفأ بيروت (غيتي)
increase حجم الخط decrease
ربما يصح التوقف عند قصة غسان حصروتي، المأسوية والموجعة والمثيرة لغضب شديد، لسبب آخر أيضاً.. أنها تمثّل تكثيفاً دقيقاً، إلى درجة الألم المبرح، لوجه من وجوه الحال التي يعيشها اللبنانيون المكلومون اليوم. غسان، الذي يعمل في المرفأ المنفجر وانقطع الاتصال به مع مجموعة من زملائه، له شقيقه إعلامية وذات حضور قوي في شبكات التواصل الاجتماعي، هي الزميلة إيميلي حصروتي، وله ابن عرف كيف يوصل صوت العائلة عبر التلفزيونات، ولذلك استطعنا متابعة تفاصيل تغييبه المشين تحت الأنقاض، ربما أكثر من غيره. لكن مثله العشرات في أقل تقدير. 

غسان الذي لم تتحرك فرق البحث والإنقاذ، بشكل جدّي، لإيجاده ورفاقه، أياً كانت حالتهم، إلا بعد 40 ساعة على الانفجار، رغم أن زملاءه كانوا جاهزين ليدلّوا إلى مكانهم الذي بات معروفاً. غسان الذي عرضت عائلته، في اليوم الثالث للانفجار، أن تتحمل كلفة البحث والانتشال على نفقتها الخاصة، لكن فقط: إبدأوا! توقيت مبكر لمثل هذا العرض من قبل العائلة غير الملامة على يأسها، ومتأخر جداً كدلالة على انعدام الكفاءة لدى الأجهزة المعنية. وهذا وحده كافٍ كوصمة عار على سلطة كرتونية بكل المعايير.

هذه السلطة التي عصَرت نفسها، وعصَرت وعصَرت، لتتمخض في النهاية عن "حالة طوارئ" بقيادة المؤسسة العسكرية. لكن أي طوارئ؟ وأي عسكر؟ الطوارئ التي لم تُلمَس فيها أي خطة لإدارة الكارثة وتنفيذ عمليات الإغاثة والانتشال وتنظيف الطرق والبيوت، أو حتى تسييج محيط الأبنية والجسور الآيلة للسقوط، فيما مراسل أحد التلفزيونات اللبنانية يعلن بوضوح، وعلى الهواء مباشرة، أنه ينقل الصورة واقفاً على جسر شارل حلو الآيل للسقوط، وأنه يسمع أصوات تشقق سقف أحد المباني. الطوارئ التي اضطلع بها الناس، الشباب، الناشطون، الجمعيات الأهلية، بلحم أيديهم وسواعدهم، بأجسادهم العارية من أي معدات أو تجهيزات أو حتى خبرة. هي فقط النخوة، في غياب المحترفين. وربما هي الحاجة إلى عمل شيء، أي شيء، كي لا يقتُل المشهدُ الناجين من موت الانفجار، فالمُصاب في حسابات اليوم التالي يقتل أيضاً. مشهد الركام والخسائر البشرية والمادية والاقتصادية والبيئية، بخطر سمومه التي ما زالت حرة طليقة في الهواء، وأفقه المسدود بالحجارة والفساد ونقص الفاعلية. والحال، إنهم اليوم، باتوا يُمنعون من الدخول.. حفاظاً على "السلامة العامة" في ظل بطء الإغاثة وسوء إدارتها؟ أم لأن قناة تلفزيونية قالت إن عناصر "حزب الله" يتسللون مع "الهيئة الصحية" إلى المكان، و"القيادة" لا تريد وجع رأس؟ وماذا عن تأخير محترفين، من فرق الإنقاذ الهولندية الآتية للمساعدة؟ هل يخشون ما قد تشمّه الكلاب المدرَّبة المرافقة لهذه الفِرَق؟ أم أن هذا النوع من المساعدة لا يهمنا تفعيله إذ لا يملأ جيوباً ولا يعاد بيعه في أسواق شعبية؟ أما شبان وشابات فوج إطفاء بيروت، فقُتلوا في باكورة محاولات الإطفاء. قتلهم جهل مَن أرسلهم قبل التأكد من طبيعة الانفجار الأول وما يحترق بداخله، بل إجرام هذا المُرسِل. كالأضاحي لآلهة شريرة، تم إلقاؤهم في فم النار.

طوارئ، تقولون؟ أي طوارئ، وعدد الجرافات العاملة في البحث عن ناجين تحت الأنقاض، حتى اليوم الثالث للانفجار، لم يزد عددها على أصابع اليد الواحدة، فيما اعتدنا رؤية جرافة أو اثنتين في أسخف ورشة بناء تجارية. وأي جيش يتسلم زمام البلد، ولم نر عنصراً يحمل رفشاً أو يعين أهل حي مدمر؟ لم نر سوى القوى الأمنية والعسكرية تقمع شباباً متظاهرين، ليل أمس الخميس، في وسط بيروت، وفايسبوك يختنق بصور خرائب البيوت والمتاجر والشوارع، بمشاهد الدم والموت. وها هو مصدر عسكري يقول للزميلة مريم سيف الدين في "نداء الوطن" بأنهم وضعوا مركز اتصال يمكن لمن شاء الاتصال عليه للتعاون مع الأجهزة الأمنية ولمواكبة من يطلب مساعدة، "عندما يبلغوننا نساعدهم" يقول المصدر، "فحجم الانفجار ضخم ويتطلب ان تتضافر جهودنا". ووفق المصدر لن يبادر المعنيون لمساعدة المتطوعين إلا في حال طلبوا المساعدة! أي كأننا ننتقل من مرحلة "ما خلّونا نشتغل" إلى حقبة "ما طلبوا منا نشتغل".

وأي طوارئ وقحة هذه، التي ما زال فيها متسع لصوت جبران باسيل يبتز الرئيس الفرنسي الزائر قائلاً: "لا نغفل واقع وجود مليونيّ لاجئ ونازح على أرضنا نتيجة للحروب غير العادلة. هؤلاء الذين نرحب بهم بسخاء، قد يسلكون طريق الهروب نحوكم في حال تفتت لبنان". ثم تقيأ ما هو أسوأ عبر شاشة "بي بي سي"، قائلاً إن السؤال ليس لماذا كان الأمونيوم هناك، بل السؤال كيف انفجر! يا لهذه الطوارئ البذيئة التي ما زال قاموسها ينظفه العونيون الرافضون "للتطاول على رئيس الجمهورية"، في حين أن تصريح الرئيس ماكرون في بعبدا، ثم في سائر جولته، كان، في حقيقته الساطعة، سلسلة من الشتائم والإدانات للرئاسات الثلاث بكل تفرعاتها، وللمنظومة اللبنانية الحاكمة برمّتها، لكن هؤلاء جميعاً احتفظوا بابتساماتهم فيما فتحوا مظلات تقي وجوههم وبذلاتهم الملونة ذلك "المطر" الفرنسي الصريح. وها هو مدير مكتب النائب العوني، نقولا صحناوي، يصفع شاباً من المارة، على الهواء المباشر للقناة البرتقالية، لأنه تساءل: "أين هو ميشال عون؟". هذه هي السلطة، وهؤلاء موالوها، الآن وهنا، فيما لبنان منكوب.

بعد ذلك كله، لا تعود "التَمسحَة" إزاء أي شيء، مُستغربة، رغم أن خبراً صغيراً واحداً يبدو كافياً لإحراج مَن تجري في عروقه قطرة دم، أياً كانت حرارتها. هذا الخبر يقول إن السلطات الكندية تبحث عن شركاء موثوقين على الأرض للتعاون معهم في تقديم المساعدة للبنان، وأنها قررت أخيراً تقديم ما قيمته مليون ونصف المليون دولار، للصليب الأحمر اللبناني، عبر الصليب الأحمر الكندي. وهذا فقط نموذج على وابل من الإهانات التي لم تكفِ لاختراق جلودهم السميكة، ولا حتى بشيء من حُمرة الخجل.

حالة طوارئ، يقولون، والبيوت والمحال مُشرّعة الأبواب والنوافذ تُنهب، هكذا أمام عيون السكان في شارع رئيسي بالأشرفية. شاحنات، ليست واحدة ولا اثنتين، بل مجموعة شاحنات، تلمّ ما تيسّر. الزجاج والحديد والألمنيوم، إضافة إلى أي معدات، أو بضائع لم تتلف، كنز ثمين في أيام الإفلاس والانهيار المالي هذه. والمفترض أن الجيش والقوى الأمنية تستلم الأرض.. والأرض تختلط فيها النفايات بالزجاج المهشّم والحديد، وليس مَن يلمّه باحتراف، لا من أجل السلامة العامة ولا من أجل فرزه وإعادة استعماله في عصر القحط اللبناني. المجتمع المدني ما زال يتنادى لتنفيذ المهمة بأفضل شكل ممكن، والمصدر العسكري قال ما قاله عن وجوب "طلب المساعدة". فإن كانت الطوارئ إمساكاً بالأمن، فالأمن مفقود. وإن كانت الطوارئ غرفة عمليات بإدارة عسكرية، تستفيد من موارد العسكر ولوجستياتهم وعديدهم وتدريبهم، لتلبية حاجات الناس الأساسية، في ظل كارثة غير مسبوقة، فالصورة ما عادت بحاجة إلى شرح، فيما اللبنانيون بحاجة ماسّة إلى خطة طوارئ لمواجهة هذه "الطوارئ".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها