الجمعة 2020/08/07

آخر تحديث: 12:01 (بيروت)

صورة بيروت

الجمعة 2020/08/07
صورة بيروت
لم أستطع مشاهدة الدمار.. حتى ولو في صوره الثابتة
increase حجم الخط decrease
لم أشاهد سوى انفجار المرفأ. كان الفطر قد تشكل في السماء مثل قنبلة نووية، وبلا صوت، رأيتُ هديره يعصف بمن يسجل الرعب عبر هاتفه المحمول، يسقط، ثم ينقلب، وتدور به الدنيا، قبل أن تنتهي الصورة. كيف طاوعه قلبه على التقاطها ثم إعادة بثها أونلاين، هل كان يذيع ما يجري على الهواء، ثم انقطع إرساله بعدما لحق به وبهاتفه ضرر جسيم؟ 


لم تطاوعني نفسي على تشغيل أي فيديوهات أخرى، ولم أستطع كذلك مشاهدة الدمار عبر صوره الثابتة، وعلى الرغم من هذا زارني الانفجار في الليل كابوسًا. 


رأيتني وقد نزلت بيروت. وصلتُ إليها عبر القطار، والمدينة صغيرة جدًا، حتى أن عتبة البيت الذي جئت أقصده تكاد تلتصق بسلم الهبوط من العربة، وكان المنزل عريقًا وفخمًا رغم ضآلته، وقد نبتت في ظهره كنيسة تفوقه في العراقة والضآلة، وكأنها واجهة لبناية من دون جسم. عبرت إليها من البيت مشتاقاً، وكأن المسيح مدفون فيها. كان لون حيطانها أحمر، وكاهنها في انتظاري ليمنحني البركة، غير أني تجاوزته إلى الشارع الممتلئ بناس يقفون بالعرض صفًا، يشبهون بلطجية الأحياء الشعبية، الذين أعرفهم، والذين يختلفون عمّن أعرفهم. فهمت أنهم كتائب لمقاتلين، ومررت من خلالهم عبر شفرة نزولي من ذلك البيت العريق - كان ثمة يقين في داخلي أنني سأمر آمناً من ذلك الجمع لارتباطي بهذا المنزل- ودلوني على مقصدي. كنت ذاهبًا ببراءة إحدى قريباتي، وكأن ثمة قريبة لي متهمة في حادث شرف، وأنا الوحيد الذي رأى دليل عفتها، ثم أنجزت المهمة، وأبلغت شهادتي، لكن قريبتي الهاربة لم تظهر، فعدت إلى المنزل الفخم مرة أخرى، وكان الليل قد حل. ثم ندهتني أمي مستجيرة، لأن أخي قد نزل إلى الشارع ليبحث عمّن هربت، فذهبت في أثره، ولما وجدته، لمَّتنا سيارة الشرطة، لكني نسيت اسم مضيفي، وحتى لا أضيع وأخي، صرت أصف للعساكر هيئة صاحب البيت الفخم. قالوا شيئًا انتهى بكناية "حبيب الله"، فارتسم الرعب على وجوه الجميع، وتركونا، لأصحو من نومي، قبل أن أعود لغفوة أخرى، يتبعني خلالها الحلم؛ أدور بين البيت والفتاة الهاربة، مستعيدًا المشهد تلو الآخر من حادث اتهامها في عرضها ثم أعود للشهادة! 

غير أني في الواقع، لم أزر بيروت مطلقًا، وأحمل في ذهني وصف الروائي حسن داوود "لبنان يشبه سوبر ماركت كبيراً"، مشتبكًا مع ما أعرفه منذ صغري عن جمالها (هل يفسر ذلك ضآلة كل بنايتها في كابوسي؟) 

عرفتُ لبنان طفلًا من لهجة أبنائه وحكاياتهم وصور أراضيه في أفلام السينما. بلد رائق مثل لكنته العربية، كل ما فيه جميل وحر، ثم تفتح وعيي عليه واقفاً، وبشكل دائم، على شفا اضطراب وحرب أهلية وتهديد إسرائيلي أزلي. لكن صورته الرائقة لم تشوش رغم ذلك. هل أحببت بيروت مثل سائح تغشيه الصورة الدعائية عن الواقع المزري؟ أم أن بلادنا العربية المنكوبة –أبدًا- عودتني النكسة مثل نمط طبيعي للحياة؟ 

عندما انفجر المرفأ، كان خالاي الأكبر والأصغر، في بيروت، ينجزان مهمة عملة تمتد إلى نهاية أغسطس، لكني لم أتصل بأي منهما في أول الأمر. بحثت عمن أعرفهم هناك؛ أصدقائي وزملائي، اطمأننت عليهم، ثم جاء خالاي. هل كنت أسأل عن أصحاب النكبة لأواسيهما؟ جاء رد خالي مثل أصحاب الأرض/ النكبة: كنا في الجبل وعدنا لنجد بيتنا/فندقنا ولم يتبق منه سوى أعمدة الخرسانة! 

ربما كان عليّ أن أبكي، لكن أن أغني "من قلبي سلام لبيروت وقُبَلٌ للبحر والبيوت"، ليس كمثل غنائي "قومي من تحت الردم كزهرة لوز في نيسان"، لأن المدينة التي لم أزرها قط في حياتي، تملك نصيبًا حتى من أكثر أحلامي سذاجة، ولا تصلح تلك الصورة أبدًا للتباكي وإن سُوّيت مبانيها بالأرض. 

هل أرفض رؤية الواقع، ليس ما جرى في مساء الثلاثاء المفجع فقط، وإنما كل ما يجري فيها عبر سنوات من الإفساد المستمر؟ 

أحنّ إلى صورة بيروت، التي أعرفها كحاضرة للجمال، وإلى نبرة من زاروها عندما يحكون عما اختبروه من بهائها من قرب، بمثل ما اختبروا الدمار المروع والفساد المستشري في أرجائها. فيها شيء يخصني، من دون أن أفكر في كنهه، مثل وطني الذي لم يشغلني وصف جماله أو إفساده عن إدراك أي منهما، لكن صورته البهية ستظل حلوة، وإن تقلبت بين حلم أو كابوس. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها