الخميس 2020/08/06

آخر تحديث: 13:32 (بيروت)

إهراءات القمح في بيروت.. قبة غنباكو في هيروشيما

الخميس 2020/08/06
increase حجم الخط decrease
بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية وبدء ترميم الأحياء والمناطق المتصدعة أو المدمرة، راجت ظاهرة نشر صور الأمكنة ما قبل الحرب، وخلالها وبعدها. كنا أمام مشهدية ستبقى طويلاً في الأذهان والوجدان والكتابات الأدبية والروائية والشعرية. هي مزيج من صور وألبومات، جمعت بين النوستالجيا ولعنة الحرب وهشاشة السلام. كانتْ الصور حكاية للماضي الغابر مع عبارة "رزق الله على هيديك الأيام"، ومنها ولدت نظرة إلى حاضر غير مقنِع وبلا أمل. حتى أن لبعض الأشخاص صورهم في الحرب، خلف المتاريس أو في لحظات تفجير أو عند خطوط التماس (أبرز كتاب في هذا المجال "لبنان فلبنان" لزافين قيومجيان). وهناك من بحث عن هؤلاء في زمن السلم، ليعرف أين أصبحوا، وماذا بقي من ماضيهم، وماذا يفعلون في حاضرهم، وثمة عرسان رأينا صورهم عند خطوط التماس أو المتاريس، وقد باتت أبرز علامات الميديا.

وفي لحظة انفجار مرفأ بيروت، كانت الصورة أوضح لأننا نعيش في زمن الميديا. العروسان كانا يحتفلان بزفافهما حين عصف الانفجار. كانت العروس تبتسم للكاميرا، حين تطاير الغبار وتحطم الزجاج. غادر العروسان المكان، وبقي الحزن على الجدران. المسألة هنا لم تتعلق بعروسين يتحديان الحرب عند خطوط التماس، بل بعروسين دوى الانفجار في يوم عرسهما... 


بعد انفجار أو تفجير مرفأ بيروت وبيروت معه، سنعود بقوة الى صورة ما قبل وما بعد، إذ لا شيء بقي على حاله، خصوصاً في المرفأ ومناطق مثل الجميزة ومار مخايل ووسط بيروت... بعض الأحياء ذات "الطابع التراثي"، نجت بأعجوبة من دبابات الحرب وجرافات السلام، صارت مثل "كارت بوستال" في حياتنا، وجاء انفجار المرفأ ليدمرها ويجعلها ركاماً، كأنه ينتقم مما تبقى من لبنان. شارع الجميزة الباقي من أزمان غابرة، أتى التفجير ليفتك بزمنه الراهن، كما فتك بمتحف بسترس. وإذا قصرنا كلامنا الآن على المرفأ، سنجد أنه عاش تحولات كثيرة، بين التطوير والتحديث، عاش حروباً وهجمات واحتلالات وغزوات، لكنه لم يصل مرة الى مثل هذه المشهدية الهيروشيمية الجحيمية التي حلت به... 

بعد انفجار العنبر الرقم 12 انقلبت الصورة، بل انفجرت، رأينا الصورة قبل وبعد، مباشرة وفي اللحظة ذاتها. هول الصورة الهروشيمية في بيروت صَدَم العالم، ضاعت معالم المكان، ما كان مرفأ صار ساحة حرب، سيارات محروقة، بشر بلا أثر، هنغارات مهشمة، دخان يتصاعد، حفرة ضخمة، سواد في سواد. إهراءات القمح باتت مثل قبة غنباكو في هيروشيما التي ظلت صامدة رغم أن القنبلة انفجرت على بُعد 180 متراً فقط، تحولت نصباً شاهداً على الجحيم... بل إن شكل الفطر الذي أنتجه انفجار القنبلة النووية، وجدناه نفسه في انفجار بيروت.

صورة مرفأ بيروت جحيم...
صورة بيروت من صورة مينائها، ربما هذا ما تعبر عنه بعض الكتابات والقصائد. في الفترة بين العامين 510 و515 قبل الميلاد، قام الكاتب اليوناني سيلاكس برحلات عديدة إلى الشاطىء الفينيقي، وصولاً إلى المحيط الهندي لأغراض استكشافية (نهر الغانج)، لكن بيروت لم تسترع انتباهه كثيراً، فدوَّن في مذكراته يصف بيروت: "إن بيروت مدينة ومرفأ".. كلمتان لم يزد عليهما حرفاً! وحين عاش محمود درويش في بيروت كتب قصيدة تقول "بيروت، الشوارع في سُفن، بيروت، ميناءٌ لتجميع المُدن". هكذا، فإن مَن فجَّر مرفأ بيروت، كأنه فجَّر بيروت ولبنان معاً، فجَّر الحياة كلها...

سنبقى طويلاً نستذكر الجحيم الذي حل بنا، وستبقى الأهراءات شاهداً صامتاً على من فتك بنا، سواء كان الإهمال أو أي جهة أخرى...
وحبذا لو تكون أهراءات القمح نصباً للسلام، تماماً كما أصبحت قبة غنباكو.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها