الأربعاء 2020/08/05

آخر تحديث: 11:57 (بيروت)

عن الثورة والـ"لالالالا"

الأربعاء 2020/08/05
عن الثورة والـ"لالالالا"
(غيتي)
increase حجم الخط decrease
ثمة خمسة أمور لا بد من التنبه لها في اقدام النظام اللبناني على التلاعب في عبارة "إن الثورة تولد من رحم الأحزان". الأمر الأول أن النظام يعيش في ماضٍ مضى. إذ يظن أن تلاعبه بعبارة في أغنية، سيؤدي الى زوال هذه العبارة، أو إلى مرور هذه الأغنية من دونها. لكن، ما يحصل في العادة هو العكس، أي رواجهما. هذا، ما يحمل، فعلياً، وبالتوازي مع الحديث عن تقادم النظام، الى النظر، ولو القليل، في مسألة العلاقة بين الكتم والذيوع، بحيث أن الأول لا يؤدي الى تعطيل الثاني، إنما الى إطلاقه، وبالتالي، هما يشتغلان معاً، لا بل أنهما مترابطان: الذيوع عقب الكتم، والكتم هو أول الذيوع. فأكبر شركة تسويق في لبنان هو النظام، ومن هنا، سرعان ينقلب تقادمه الى ظرف راهنيته.

على أن الأمر الثاني هو كون النظام أبقى من العبارة على "إن الثورة" وألغى "تولد من رحم الأحزان"، مستبدلاً إياها بـ"لالالالالا". فتصير هذه الـ"لالالالالا" لاحقة على "الثورة"، وبهذا، تغدو وإياها في صلة بعينها، وهي صلة المسخرة عليها. هذه المسخرة لها اسم من لساننا العام، وهو "اللَّولأة"، التي تفيد بكون أحد ما يتحدث معنا، فنشرع في رفض كلماته بتقليد صوته للتهكم عليه، وهذا التهكم يستوي على ترداد "لا لا لا" حين نتلقى كلماته تلك من أجل محوها، الإطاحة بها. صلة الـ"لالالا" بـ"إن الثورة" تنطوي على هذه "اللولأة": الـ"لا" التي تلحق "إن الثورة" تبدو تهكم على "الثورة" وتطيير لها.

الأمر الثالث يتعلق بإزالة "تولد من رحم الأحزان". إذ أن النظام يستهدف الحزن، يقدم على إلغائه، وهذا، على أساس أنه "سلبي". الانقباض امام "السلبية" هذه يحيل الى مشروع نفيها، مشروع "فرد الطبقة الوسطى" بنسخته المحلية الكاريكاتورية، الذي يريد أن يفكر ايجابياً، ويتحدث ايجابياً، ويتصرف ايجابياً، و"يثور" ايجابياً، ويتواصل ايجابياً... كل شيء يريده إيجابي في وضع يصعب وصفه بأقل من كونه خرابا بخراب. هذه الإيجابية السامة (la positivité toxique) هي ما حاول النظام، وبكل كوميدية، أن ينتقل اليها، أو أن يعززها طالما أنها تنطلق من ذلك المشروع الـ"ميدلكلاسي". في الواقع، النظام لا يستهدف الحزن فحسب، انما، وأيضاً، يستهدف الفرح: الفرح ينطلق من الحزن، لا من تلك الإيجابية، التي تبغي الارجاع الى ما قبلهما، الى نفيهما.

وهنا، يحل الأمر الرابع، وهو أن لا يدفع النظام، وعند إلغاء الحزن، إلى حب هذا الحزن، إلى التمسك بالحزن على أساس أنه هو السبيل الى الثورة. لا مناص من الحزن، هذا أكثر من بديهي، ولكن، العلوق به بالاستناد الى مقولة أنه "المثور"، هذا ليس دقيقا. في حال كان الحزن هو "ما يمسك القدرة على الفعل" (اسبينوزياً)، فهذا الإمساك قد يشكل وقت التفكير بالفعل نفسه، ولكنه، لا يفضي إليه، لهذا، بعد الحزن، بعد الإمساك، لازم هو الفرح بوصفه هو ما يطلق تلك القدرة نحو فعلها. تحقيق هذا الفرح يتطلب فك الإمساك، فك ما يمسك القدرة، ما يجعلها منخفضة، أي ضرب ما يسمى، وباختصار، السلطة. بالطبع، تسجيل هذه النظرية هو تسجيل لا معنى له، لأن الحياة لا تدور بالارتكاز الى كاتالوغ انفعالي قريب من كاتالوغات "تطوير الشخصية" من قبيل "الآن نحزن، ومن بعدها نفرح، وهكذا، نتحرر"! نظرية لا غنى عن تسجيلها، وعن القول إنها تبقى في حدود تسجيلها، وهذا، من دون نسيان التشديد على أهمية التخلص من كل بسيكو-سلطة (psycho-pouvoir).

الأمر الخامس مفاده تجنب الوقوع في الاخذ بعبارة "ان الثورة تولد من رحم الأحزان"، لأن، وببساطة، لا تولد منها. ليس لأن الحزن يمسك القدرة على الفعل فحسب، انما، وأيضاً، لأن "الثورة" لا ترتبط بظرف بعينه، ولا ينبئ بها أي ظرف من الظروف. في الواقع، ربط الثورة بالحزن، أو بأي شيء غيره، يحيل الى ذلك الاستفهام الذي انتشر في اثر حوادث العالم العربي المسماة إعلامياً "ربيع عربي": لماذا الآن؟ استمر طرح هذا الاستفهام، واستمرت الإجابة عليه بلائحة من المسببات (الاستبداد، القمع، الفقر إلخ.)، وكل هذه اللائحة كانت، وطوال وقت تطويلها، تبدو كما لو أنها تنطوي على خوف من الحوادث نفسها، خوف مما تؤدي اليه، ومحاولة لضبطها. كما لو أن التفتيش عن تظريف الثورة يبتغي ألا تقع البتة.

في كل حال، هذه اللائحة هي بحد ذاتها تولد مشكلة، لأن، وبفحص كل ظروف الثورة، مسبباتها، دواعيها، يمكن القول أنها موجودة، وموجودة بافراط، ولكن، لا ثورة، كل شيء ينبئ بالثورة، ولكن، هذه الثورة لا تقع. بالتالي، وفي هذا السياق تتكون تلك المشكلة، بحيث يصير من الضروري انتظار الثورة. فتبدو الثورة الان في لبنان، ونتيجة انتشار البحث عنها، انتشار الحديث عنها، انتشار استدعائها، انتشارها ككلمة، انتشار تقديسها، ونتيجة ابقائها كجزء من مقطع في اغنية، هي موضوع انتظار. ولكن، كل شيء منتظر هو شيء ميت (موريس بلانشو). ولهذا، انتظار الثورة، وهو آخر ما يمكن فعله حيالها، لا جدوى منه، لا بل ان الإقلاع عن هذا الانتظار، عن ترداد "إن الثورة.. إن الثورة"، هو الثورة إذا صح التعبير. فعلياً، الثورة، وحين تقع، لا تكون منتظرة، فحتى المنخرطون فيها ينتقلون الى وضعها من دون إرادتهم، بل يفعلون ذلك لأنها الممكن الأخير.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها