الخميس 2020/08/06

آخر تحديث: 09:30 (بيروت)

جدي الذي مات مرتين

الخميس 2020/08/06
جدي الذي مات مرتين
قبور محمود سعيد
increase حجم الخط decrease
قصة
مات جدي في العام 1980، وهو العام الذي اشتعلت فيه الحرب بين إيران والعراق. مات جدي فجراً، وكانت غابات النخيل كتلة رجراجة من العتمة، تطير فوقها أشباح غير مرئية لأموات القرية القدامى، وقد راحت الديوك تعلن بأصواتها الحادة رحيل جدي وحلول يوم جديد في حياتنا. وفي طريقي إلى بيت الشيخ، سمعت إطلاقات عمّي معلنة الخبر، أعقبها نباح الكلاب وكأنها توقظ القرية على الخبر الحزين. وجدت الشيخ "علي" يصلي على سجادة خوصيّة صلاة الفجر فأخبرته بوفاة جدي. هز الشيخ رأسه وتبسم، ثم سألني إن كان يمزح كالمرة السابقة، أم أنه جاد في موته؟ أكدت له أنني رأيته يغمض عينيه ويكتم شخيره ويقذف روحه بين يدي ملاك الموت. ومن حضر الوفاة؟ سألني الشيخ فأجبته أن شجرة العائلة كلها شهدت خروج روحه، الأبناء والأحفاد وأبناء الأحفاد، وأبي هو الذي ألصق أذنه على صدره ليتأكد من الموت. قال لي الشيخ وهو يثني سجادته الخوص بتمهل، إنه سيغير ملابسه ويأتي، ولا حاجة لانتظاره. رجعت في الطريق نفسه إلى البيت، فألفيتهم منشغلين بوضع ألواح خشبية لغسل الجسد في المخزن، وهو غرقة من الطابوق النيء تقع على بعد أمتار من فسحة بيتنا. سخنت النسوة على عجل قدرا من المياه، وأحضرن صابون الغار والشنان واليانسون، وأخرجت أمي الكفن القديم المخاط بإتقان، والمطوي بعناية منذ الموت الأول. وبدأ أبناء القرية يتوافدون على بيتنا لترتيب الدفن. ومع بزوغ الشمس من الأفق بعث أبي أربعة رجال من أقربائنا إلى المقبرة لحفر قبر جديد. حمل الأربعة معاولهم، ورفوشهم، ووضعوا برميلا من المياه على حمار قوي لتسهيل الحفر، ثم مضوا عبر غابات النخيل إلى الشمال. وكانت المقبرة تبعد خمسة كيلومترات عن القرية، وسيسكن جدي هناك، بعيدا عن شجرة التوت، وضحكات أحفاده، ونسمات نهر الفرات. لن يسمع بعد اليوم هدير مضخات المياه، ولن يشم أريج القمح والذرة، ولن يرى وجوهنا التي أحب ملامستها بأصابعه الخشنة المعوجّة من الشيخوخة. وصل الشيخ علي فولج رأسا إلى المخزن، شمّر عن ساعديه، وطوى دشداشته، ثم تأهب لاستقبال الميت، وهو بادي القلق، يسبّح بحمد الله، ويحوقل، ويصلّي على النبي مثلما فعل في المرة الأولى التي غسل فيها جدي ولم يكمل غسله.

في المرة الأولى مات جدي عند منتصف الليل، وظل أبي ساهراً على جسده في غرفة الضيوف، فالميت لا ينبغي أن يترك وحيداً. وبعدما أضاءت الشمس سطوح البيوت وعيون البقر وأمواج النهر بأشعتها الذهب، أوفدني أبي إلى الشيخ علي بعدما أطلق عمي ثلاث رصاصات. اجتزت الطريق باكياً، ولم يخطر لي يوماً بأن جدي سيموت، حاله حال النخيل المحيط بالبيت، ونهر القرية، وشجرة التوت العجوز التي أكل من ثمارها شاباً وقال إن توتها الأسود أشهى من العسل، وإنها شجرة أصلها من الجنة. وفكرت أنه سينام وحيداً في المقبرة، ولن يجد من يحميه من الضباع وبنات آوى حين يجنّ الليل وتصطخب الريح. مات جدي شتاء، في يوم بارد شاركتني فيه البكاء شمسنا الصفراء، والغيوم، ونوارس النهر. وفي ذلك اليوم الشتائي غلت أمي وقريباتي قدراً كبيراً من المياه، عطرنه بالكافور والشنان، وكل ما خطر في ذهنهن من أعشاب. ثم حمل الرجال جسد جدي وأدخلوه المخزن، وبدأ الشيخ علي عمله بدقة ودراية، وكنت أحدّق من شق الباب إلى يديّ الشيخ المدربتين، وفكرت أنه سيدفن من دون غسل، فأشفقت على الشيخ، وجدي، وعلى النساء المولولات في الفناء. يدا جدي متصالبتان على صدره، لحيته مشذّبة بيضاء، ووجهه حقل تجاعيد، انتشرت على بشرته نقاط سود أشبه بالنمش ظلت تتكاثر على مر الزمن. رأيت القدر مركوناً على الجدار وجدي ممدداً على ألواح الخشب عارياً، نحيفاً، مصفر الجلد. غرف الشيخ المياه المعطرة بطست نحاسي أحمر فهجست أن جدي سيفيق ما إن يلامسه الماء، فهو لا يستطيع احتمال سخونة مثل تلك. وهذا بالضبط ما حصل. فبعدما طرطش الشيخ المياه على رأسه اللامع حرك جدي يديه المتصالبتين ومدهما جنبه على الخشب. صاح الشيخ بصوت ثاقب: الله أكبر ألله أكبر، ثم ناداه باسمه، وراحت أصابعه تمسد الصدر، والبلعوم، والبطن. لم أصدق أنه حي، ولم يصدق الشيخ أيضاً إلا بعد أن غرف طستاً ثانياً من الماء المغلي وسكبه عليه، فما كان من جدي إلا أن عطس وتنفس وارتعشت شفتاه.

الميت حي، الميت حي، ردد الشيخ ذلك ثم ترك جدي وحيداً، وأعلن الحدث للملأ المحتشد حول المخزن، فانقلب كل شيء إلى نقيضه. كفكفت النسوة دموعهن، وغنت العصافير في السعف، وتذهّبت أشعة الشمس أكثر من ذي قبل، وداخلتني فرحة عارمة لم أشعر بمثلها قبلئذ. أرسل أبي إلى حفاري القبر من يبلغهم بانتفاء الحاجة إلى الحفر فالميت حي، وذبح أبي خروفا للمعزين والمهنئين، أما جدي فألبس ملابس نظيفة ومدت له أمي فراشا وثيرا، وأحاط به الرجال والنساء والصبيان. لكنه لم يعد إلى الكلام إلا حين انتصف الليل وتفرق المعزون والمهنئون، وجاء كلامه هذيانا امتد يومين طويلين علينا.

تكلم مبتدئا بالنساء اللواتي ضاجعهن سراً حتى أنه سماهن بأسمائهن وأشار إلى الأماكن بوضوح، بعثر مغامراته بيننا بلا وجل ويعود تاريخ بعضها إلى عشرات السنين السابقة. وعند انتصاف الليل طلب من أمي جلب فرسه الحمراء فهو ذاهب لغزو قبيلة من البدو مضاربها قريبة من المقبرة. طلب منها أن تملأ المعلف بالتبن، وتخلطه بالشعير، فالغازي لا ينبغي أن يغير على أعدائه بفرس جائعة، وكنا نحن المحيطين به حائرين بين الضحك والحزن، فقريتنا ودعت آخر فرس إلى بطون الكلاب قبل أن أولد أنا. إنهم قادمون، يصرخ جدي بأقرانه الشباب، عليكم بالاختباء، الجندرمة الأتراك لم يدعوا أزواجا لفتيات القرية، وحرب "السفر برلك" أهلكت الزرع والضرع.

رحل الليل على خيوله السود، ونورت الشبابيك بالفجر وأحس جدي بالتعب، تراخت حنجرته وتقهقرت كلماته وخفتت، ثم تحولت إلى أنين موجع وجمجمة تلاشت هي الأخرى مع ابتسامة الصباح. رقد بسكون وانفضضنا من حوله بأمل أن يفيق بعقل معافى ورزانة حافظ عليها طوال سنواته المائة. كانت أمي تخشى من ايقاظه وأبقت الطعام الذي أعدته من الشوربة والدجاج بين يديها تحسبا ليقظته المفاجئة. نام جدي يوما كاملا، وأفاق مع بزوغ نجمة الثريا وصهيل خيول الليل وخلاء الدروب من الماشين، وبدت على وجهه سيماء مضطربة وصفرة مرعبة. نما الخوف فينا مثل فطر بري وتوسلنا إليه، مع أرواحنا، أن يتجنب الحديث عن فضائح عفا عليها الزمن، فالغرفة غاصة بالناس والكل ينتظر ما سوف يقوله، إلا أن جدي لم يطاوع أمانينا وتوسلاتنا وعاد يروي بوضوح عجيب: رأيناهم ينسحبون على بغالهم المحملة بالحرير والذهب والجواهر، جندرمتهم، وولاتهم، وحجّابهم، وخدمهم، ثم يمموا صوب اسطنبول عبر صحرائنا الرملية. تركوا سطوة مئات السنين ونجو بجلودهم. قالوا للانكليز هاكم البلد، خذوه بكنوزه ومياهه ونخيله ونسائه السمر وجوامعه. لم تعد الجوامع بذات قيمة منذ أن اخترعوا المدفع. الشوارب السود الممسّدة بالزيت، البواريد الطويلة، الجزمات الرفيعة الرقبة، الطرابيش المزركشة بخيوط الذهب، ثم تعرف أن الواقف أمامك جندي من جنود السلطان. شعر أشقر ووجه أملس طويل وبناطيل تصل إلى الركب ورؤوس عارية لا تسترها سوى السماء، تشاهد ذلك فتدرك أنهم الانكليز وفدوا لمحاربة المسلمين، هدم جوامعهم ونهب خيراتهم وتحويلهم إلى خدم. جاء الغزاة بوجوههم التي أكلها البهق، وهاجمت مراكبهم مدن العثمانية وقلاعهم، والمدفع يهزم البارودة، وهرب الولاة إلى اسطنبول مثل جرذان مذعورة. هربوا وتركونا لرحمة الانكليز، فأقاموا ملكا ونحّوا ملكا، فهل تذكرون المس "بيل" والجنرال "مود" والملك عبدالله، قالوا لنا سنذهب لتحرير فلسطين، ومن لا يتطوع لتحرير فلسطين، ركبنا سياراتنا العتيقة وحملنا بواريدنا العصملية وسرنا، ثم قالوا لنا إذا رحل اليهود من بلدكم أفضل، طردناهم من ديارنا فنقلوهم إلى القدس، ورام الله، وجنين، وكفر قاسم. رأيناهم هناك، لكنهم كانوا مسلحين، أعطوهم المدافع والدبابات وأرسلونا عبر صحراء الجزيرة من دون مدافع. كنت أحمل في جعبتي خمس رصاصات فقط، أطلقتهن واستخدمت بارودتي عكازة.

المجتمعون في الغرفة رانت عليهم الدهشة، ودمعت عيونهم من دخان المنقلة الرابضة وسطهم، وخشينا نحن من انعطاف جدي المفاجئ إلى حكايات النساء، ولم نتنفس الصعداء إلا بعد أن غادرنا الضيوف واحدا بعد واحد. رجعت أمي إلى سؤاله إن كان بحاجة إلى طعام. ومن له حاجة للطعام، رد جدي متبسما، وظننا أنه استعاد وعيه، أكلنا الرز واللحم في عرس عبدال هذا العصر، ومن يذق طعام الأعراس تنقطع شهيته. عبدال يا عبدال، هل هم قادمون لاحتلال المدن، جهز حالك واحضر سلاحك، فأحضان الزوجة لا تجلب الأمجاد. مات عبدال من ذاكرة القرية منذ عشرين سنة بعد أن حكم عليه بالسجن المؤبد لقتله قصّابا وابنه في مشاجرة حول نقود. استولى الدخان على عقل جدي وسقطت حنجرته في ظلمة الليل، فتراخت عظامه وانتظم تنفسه، وهوى رأسه اللامع أخيرا على المخدة. لم يفق إلا ساعة الظهيرة، فتح عينيه الصغيرتين وأجال بصره في الوجوه، وانحدرت الدموع من عينيه، فخاطبه أبي بصوت رقيق حان: هل أنت جائع يا أبي؟ نعم، أجابه بنبرة من يشعر بالذنب. قدمت له أمي الشوربة والدجاج مع الخبز فأكل بنهم دون أن يقاطعه أحد. طلب شايا فسقيناه، ودخانا فبرم له أبي لفافة وضعها في مشربه الطويل المزخرف، وأشعلتها أنا بقداحته النفطية العتيقة، ودون أن يسأله أحد راح جدي يحدثنا عن رحلته العجيبة: اختطفني ملك كأنه بازي، له أجنحة من حرير وعيون من الزمرد، كنت بين يديه مثل عصفور مرتجف، وطار بي إلى السماء، ومن بين طبقات سندسية، وفرجات مرجانية، وكوى مؤطرة بالعاج، أراني عالم الأرض وقال لي انظر. نظرت فاندهشت. إنني طفل صغير وضعوا على رأسه غطاء من القطيفة مجمّلا بالودع والخرز يلعب بين بيوت الشعر والمراعي الصحراوية، وبدت الصحراء سجادة خضراء تسرح في جنباتها حمير وبغال وأغنام. كلاب تنبح على ضيوف ملتحين، ونساء يغزلن الصوف على مغازل من الخشب. هي سنوات الطفولة. أدار رأسي قليلا وقال لي انظر فنظرت: النهر ممتلئ بسفن الانكليز يسوقها سيخ بلحى مشدودة بخيوط من شعر الماعز، وعمائمهم تشبه عمائم الأولياء، يتقافزون بين أكداس الورق، والعتاد، والبنادق، وبالات الألبسة العسكرية الضخمة، هم الذين أحرقوا بيوتكم واحتلوا مدنكم واستحيوا نساءكم، لولاهم لظلت دولة بني عثمان عامرة إلى أن تقوم الساعة. لم يعد أمامكم إلا انتظار المخلّص، حيث يندحر بني يهود ويتشتتون في بقاع الأرض ثانية، تحاربهم الصخور والشجر، تقول الصخرة بصوت صريح يا مسلم إن وراء ظهري يهوديا مختبئا، عاجله بالسيف والخنجر، وصوب عليه بالبارودة. ذاك وقت ستعيش فيه الحملان مع الذئاب، والدجاج مع الثعالب، وتختلط فيه الرجال بالنساء، وكل ذلك مدون في كتاب مسطور. ثم ارتفع بي قليلا حتى رأيت بيوت الطين وتنانير القرية وباصات الخشب ودخان مضخات المياه الرابضة على كتف الفرات، وإذا كل شيء مختلف عن سابقه. إنها سنوات كهولتك. بعدها نزل بي فلامس جناحاه أوراق التين، وسعف النخيل، وأشجار الطرفاء، وأسماك النهر، وقال لي ودّع من تودع، واغرس ما تغرس، تزوج كما تشاء، وتكلم بما يأمرك قلبك، فلن تموت هذه المرة. سترى أحفادك وأبناءهم، وسترى أمورا عجيبة لا يقبلها عقلك، لكن تمنّ الموت وسأجيئ إليك فأطير بك إلى السماء بلا عودة هذه المرة.

كم تبدل جدي بعد موته الأول، انسحب مثل محار إلى عوالمه الداخلية وخبايا سنواته التي لا تحصى، فقلّ حديثه وتراخت أعضاؤه، ونما في وجه النمش مثل حقل من الذرة. صارت أمي تحمل الطعام ليأكل وحيدا، تضع يده في الماعون وتمضي، وصار أبي يلف له سجائر تكفيه ليوم كامل. وما إن تمت غيبة بصره كليا حتى أخذ يسمي البنين من أحفاده بأسماء البنات، خالطا بذلك الجيل الأول من العائلة بالجيل الثاني، فجلب لنفسه التندر مرة والعطف مرات. وبعد التباسات كتلك، نادى جدي على ملك الموت أن تعال خذني، رأيت أكثر مما ينبغي لإنسان أن يراه.

وفي هذا اليوم الحزين، ومن خلال شقوق الباب، شاهدت جدي راقدا بين يدي الشيخ علي باستسلام، وقناعة مطلقة بالسفر. لا زفرة ولا رعشة. لم ألاحظ أي حركة في الأعضاء، واستقبل المياه المعطّرة ببرودة الموت راضيا، مستكينا، قانعا بموته الأبدي. غسل الشيخ زوايا الجسد وانحناءاته بأتم العناية، رش عليه العطر ونادى على الواقفين جنب الباب لمعاونته في تكفينه. وبعد إتمام العمل نقلوه محمولا بالأيدي ومدّدوه على النعش، وكان من خشب الصفصاف، ثم غطّوه بحرام صوفي أحمر. وقبل الظهيرة بساعة حمله الرجال على أكتافهم، واتجهوا به إلى المقبرة عبر بساتين النخيل، وغابات الطرفاء والشوك، وأجمات البردي. أحسست بعد أن غابوا عن البصر أن جدي مات ميتته الأخيرة حقا، وهو الآن بين ذراعي ملك الموت، طائرا فوق الصفصاف والتوت ودخان السيارات وأمواج النهر. لكنه لم يرحل وحده في ذلك الصيف الكئيب، بل حمل معه حياتنا السعيدة وإلى الأبد.

(*) قصة نشرها الروائي العراقي شاكر الأنباري في صفحته الفايسبوكية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها