الإثنين 2020/08/17

آخر تحديث: 12:28 (بيروت)

بيروت بعد ربع قرن (1-2)

الإثنين 2020/08/17
بيروت بعد ربع قرن (1-2)
الحمرا
increase حجم الخط decrease
لاحت لي في نهاية 2008 فرصة السفر إلى بيروت. ولم أتأخر في استقبال هذه الفرصة، وها أنا أزور بيروت للمرة الأولى منذ العام 1982. وصلتُ إلى هنا وبي نهم خاص لكل تفصيل قديم، أفتش عن كل زاوية في هذه المدينة التي عرفتها فتى وعشت فيها شاباً لسنوات، أبحث عن كل نافذة تنفتح أمامي لرؤية المشهد، وإعادة تركيب الصورة، ووصل ما انقطع منها.
 
أعود إلى بيروت تغمرني فرحة حسية عارمة تبلغ درجة عالية من القوة، بحيث أني لا أعرف من أين أبدأ خط العودة. هل من سيل الذكريات الذي لا يتوقف، ويزداد عنفا وتدفقا عند كل تفصيل من تفاصيل هذه المدينة، التي لها الفضل في تكوين وعيي الأول بالعالم، عدا عن أنها هي التي فتحت لي طريق السفر نحو الأفق الواسع والبعيد؟! كنتُ أجلس على شاطئ المنارة في المساءات، أراقب السفن المغادرة لميناء بيروت، وأنا أحلم بأن يأتي اليوم الذي أكون فاراً على متن أحدها، تاركاً خلفي العالَمَ الأول، الذي تفتحت فيه، وكبرت على أدراجه، تنفست هواءه بحب وألم، وما زلت أحمله على كاهلي أينما حللت، ليس فقط في الشعور، وإنما كذلك في الكتابة. فالقصيدة دائماً تعيدني إلى شرق الألوان التامة الضاجة بالحياة والصخب والعنفوان والحيوية والفرح والعذوبة والعاطفة، لكل لون قوة وصفة وأثر، ما بين الصحراء والبحر والجبل والنهر والوادي، حياة لا تتوقف عن توليد الأحلام.

ترافقني رائحة الشرق حيثما ذهبت، وهي التي تلازم دائماً طبيعتي القلقة والهائمة، وهذا ما يفسر عدم تصالحي، حتى الآن، مع أي من الأماكن التي سكنتها. لم تشدني أرض أو مكان كما هذا الشرق العذب والقاتل بحبه وعنفه. لقد بت مريضاً بالحنين، لا شيء آخر غير الحنين، بي شوق عارم لتفقد المكان الذي حبوت على أدراجه، حتى وقفت على قدمي وعبرت ضفة المتوسط، من بيروت.


من أين أبدأ الدخول إلى بيروت، التي كانت بالنسبة إلي، حين زرتُها في المرة الأولى، تشبه لوحة مغرقة في التركيبية، حتى صارت قصيدتي وظلال حياتي؟!

في باريس بقيت لأسبوع أحلم بهذه الرحلة حتى انتابتني رعشة خاصة من التجربة التي ستترتب عليها، نظراً لكثرة الإسقاطات التي علقتها عليها، وقد أدركت في طريقي إلى مطار "شارل ديغول"، بأنه لم يسبق لي أن حسبت حساباً يوازي ذلك لأي رحلة أخرى. بقيتُ أسبوعاً كاملاً وأنا أفكر في أي الأبواب أطرق أولاً، وإلى أي الأماكن يجب أن أحج، ونحو أي البيوت التي سكنت فيها يجب أن أتوجه في البداية؟! ففي كل الأماكن خضعت لوحشة الكائنات الهشة، حلمت، تألمت، بكيت، ضحكت، أحببت، فشلت، وخسرت حتى الثمالة، ثم فكرت بالرحيل وبي مرارة وأشواق لا تنتهي.

ها أنا أعود بعد أكثر من ربع قرن بالانفعال نفسه الذي غادرتها فيه، لا أشعر بأنني من هنا بالكامل، ولا غريب بالكامل، وهذه فكرة الكثير من الذين سبق لهم أن عاشوا في بيروت، أسير على خط رفيع بين الماضي والحاضر. أفكاري حول المدينة متحولة ومختلفة ومتناقضة في ما بينها، لكني أعرف بأن كل المدن تبدل سكانها، يصير لها سكان آخرون. لا بدّ أن المدينة تغيرت بعد ربع قرن، من يدري ماذا حصل، وأي الطرقات ما تزال سالكة، أي صالات السينما والمقاهي والمكتبات ما تزال في مكانها، تحافظ على إيقاعها القديم؟! 

لا تشبه بيروت غيرها من المدن العربية، لا نجدها لا في دبي ولا في القاهرة، إنها تسابق نظيراتها اللاتي تعيش في رهان دائم على الحداثة، لكنها تمتد نحو الماضي أيضاً. ورغم أنها غيرت ملامحها الخارجية مرات عديدة بسبب الحروب التي عاشتها، فإن روحها ما تزال موجودة في النصين، المكتوب وغير المكتوب، في السري والعلني. تضع إحدى قدميها في الثقافة، والثانية في عالم آخر.

قد تكون هذه التداعيات من تكويني وخيالي، وحتى خديعتي، لكني شعرت بحاجة لرؤية المدينة من منظور السر الذي أدين به لها، أردت امتحان البقية الباقية من الشوق والحنين. فكثيراً ما صدمتني الانطباعات التي سجلها كُتَّابٌ عرب عن المكان، بعد زيارة جاءت على إثر غياب طويل. ولم أجد شهادات يمكن الاعتداد بها. وكثيراً ما راودتني فكرة بأن الحنين قد يكون محض مشاعر مَرَضِيَّة سرعان ما تتبدد في لحظة العودة للمكان، أو العكس... ظل الأمر لغزاً، وكان عليّ أن أجرّب كي أستطيع الحكم بنفسي.

سماء صافية والهواء اللطيف يثير في النفس نشوة عارمة، روائح خفيفة هي مزيج من عبير البحر المتوسط وبقايا الخريف في المدينة، هذا ما دفعني للقيام بجولات ليلية ونهارية، كأني أسوح في إمبراطورية قديمة، بحثاَ عن بقايا الماضي البعيد، وقد تعتق في شقوق المكان الذي تغير كثيراً، عن فرجة المدينة على نفسها بعد كل هذا الغياب، عن خراب كل شيء خاص وتحطمه، عن الحزن المعرّش في الناس والشوارع، عن الأمكنة التي اختلط فيها فرحي وحزني بصداقاتي القديمة وانكساراتي هنا في كل زاوية من الزوايا، عن لحظات العبث والتسكع، عن أحلام ضائعة منسية في سيكارة كنت أدخنها إثر أخرى، وقصيدة أتبعها ولم تكتمل، وكتاب مفتوح الصفحات نحو أسئلة لا تنتهي.

أمشي مسكوناً بهواجس الانتباه، تفتنني لعبة المجازفة في البحث عن المظاهر والأحوال، تغمرني بهجة خاصة، وأنا أتملى في مصابيح الأحياء الخلفية البعيدة، في دكاكين البقالين العتيقة، في الشوارع الجانبية. سِرتُ في حَوَارٍ أعرفها وأخرى أجهلها، تحدثتُ مع باعة مسنين وسائقي سيارات تاكسي وسرفيس، حديثة وقديمة، مع شرطة سير وشحاذين وماسحي أحذية ومتسكعين، مع عمال في المقاهي والمطاعم وموظفين وموظفات استقبال في الفنادق والمطار، مع أغنياء وفقراء، أجانب وعرب، سياح ومتسوقين، مع كل من أتيحت لي فرصة الحديث معه عن بيروت في بيروت، وأدركت كم تفيد تلك اللمحات الخاطفة في التركيز، وإدراك خصائص المكان من جديد.

في الظهيرة ازداد الهواء دفئاً، بينما كنتُ أسير قرب الميناء حيث يتم تفريغ وتحميل الشحنات، استمعتُ لأصداء صفارات السفن القادمة والمغادرة، كنت تواقاً للقاء البحارة الذين هم بالنسبة لي، على الدوام، من ذرية مختلفة، يقودون المراكب نحو تصادم ظلال العوالم، في خضم البحر والمحيطات، لعبور الحواجز التي تؤلف بين اليوم والأمس. كان الزبد يكتسح صدر الباخرة وأسراب من النوارس تحوم فوقها، ونفثة بخار الصفارة يعكر السكون، هي راحلة نحو مرفأ آخر، ربما مارسيليا، طنجة، قادس، رأس الرجاء الصالح... إلخ.


عدتُ مرات عديدة نحو الحي القديم أبحث عن الأطفال، الذين كانوا يلعبون كرة القدم في الشوارع الضيقة، بينما يعلو صراخ سائقي سيارات الأجرة الذين يجاهدون لإيجاد منفذ للعبور، شاهدت نساء حاسرات ومغطيات الرؤوس عند مواقف سيارات السرفيس وبسطات الخضرة وباعة القماش واللحوم ومحلات الحلاقة والتجميل وصالات الرياضة، فتيات في أول الصبا منتظرات في المقاهي أصدقاء يتأخرون عن المواعيد، جلست في مقاهٍ تبدل روادها في كل ساعة، رميت نفسي في الزحام، أردتُ أن أنسى ذاتي بين المارة، ركبت سيارة السرفيس العتيقة المخلخلة من طراز بونتياك، التي كانت تتغندر في الزحام مثل أفعى فوق الرمل، وهي تصدر أنات متواصلة، وتطلق جرعات كبيرة من الدخان الأسود. نزلت من الحازمية نحو المتحف، ومن المتحف نحو البريستول، حشرتُ نفسي بين الركاب لكي أستمع لحواراتهم، وأقف على آرائهم ، وأحس النبض الشعبي. بحثتُ عن مواقع الأسواق القديمة (الطويلة- سرسق- اياس-الخضرة-الإفرنج- البازركان- الأرمن- باب إدريس-الصاغة-العطارين-النجارين)، عن الحي التجاري القديم الذي يعود إلى العصر الفينيقي، والحائط الذي يعود للقرون الوسطى، عن المدرسة القرآنية التي تعود إلى عصر المماليك، والتي تعرف بزاوية ابن عراق الدمشقي، هذا الموقع الذي يبرز الحضارات المختلفة التي توالت، ما يؤكد على تواصل الحياة في هذه المنطقة من بيروت على مدى خمسة آلاف سنة. ارتدتُ الجوامع والكنائس والمكتبات، فتَّشتُ عن صالات السينما التي كانت تملأ بيروت، تنشقتُ الصدأ والغبار وسط أكوام الإسمنت المسلح، راقبتُ رفوف النوارس التي كانت تحوم فوق الحمّام العسكري، توقفتُ مليا أمام مداخن البيوت القرميدية العتيقة، واسترحتُ في الحدائق، تفرجتُ على النساء وهنّ يمارسن رياضة المشي، يُحاولن الحفاظ على لياقتهن البدنية، راقبتُ عشرات الأبنية القديمة في الشوارع الجانبية، التي كانت تسكنها الطبقات الميسورة، وقد علاها شحّار الزمن، وما تزال ماثلة فيها آثار الحرب، الأبنية المغلقة بجنازير وأقفال من حديد، أقفال صدئة تعود إلى منتصف السبعينات، كل شيء في الأبنية يشهد على مجد غابر، بعضها يشبه الدور التي نراها في الأفلام القديمة بالأبيض والأسود. وتوقفت في المنارة مع الصيادين، أمضيت وقتا ممتعا وأنا أتنصت إليهم من بعيد يلفحني رذاذ البحر المالح، وهم يتحدثون عن أخبار البورصة، تحدثت مع المصورين على الروشة الذين يقتنصون الأمهات الشابات مع أطفالهن، تمليت في منظر الماء على الصخرة، ما يزال صافيا جدا، وكأن التلوث لم يصل إلى هنا، تمعنت مطولا في بقايا الملصقات في بعض الشوارع، وتمليت في الكتابات الكثيرة التي تغطي الجدران، صعدت إلى الحمّام العسكري لأرى البحر من زاوية أخرى، وقد أصبح مسوراً في صورة كلية. جلستُ في مقهى الروضة لأتذكر جابر وخالد وشيرين وديانا وجميل ووائل وغادة ورانيا وعماد وزياد وفؤاد ويونس وغسان وعلي وناصر وعبد الحي والياس وبيار ونجوى وليلى وفادية وهدى وندى وجمالات وسمر. ذهبت إلى كلية الآداب لأستعيد ذكرى الطلبة والطالبات الهاربين من الدروس، والذين أضاعوا أوقاتهم في النظرية، وقفت على أبواب مقرات الصحف التي قرأتها ذات يوم وتعلمت منها، بعضها انتقل إلى وسط البلد مثل "النهار"، والبعض الآخر بقي في مكانه مثل "السفير"، وهناك الذي اختفى مثل "النداء"، لكن هناك صحفاً جديدة صدرت مثل "الأخبار"، التي كان على رأسها الصديق الراحل جوزيف سماحة.

حادثت باعة الكعك واليانصيب المنتشرين في الشوارع، لتذكير الناس بأن الحظ ليس وقفاً على الأثرياء. راقبت حركة النساء الذاهبات إلى العمل في الصباح، اللواتي يقدن سياراتهن في الزحام وهن يستمعن للإذاعات ويدخن بهدوء وإثارة، فتشت عن الطمأنينة في الوجوه، عن الأسئلة، عن ضجيج وعجالة العائدين إلى بيوتهم في المساء، عن درج الجامعة الأميركية وملتقيات الطلبة، مطعم "الباروميتر" الشبابي الدافئ والجميل، الذي يعلق صورتي زياد الرحباني وياسر عرفات، ويعرض لوحات تجريدية. بحثت عن النصب التاريخية وكتب الرحلات والمتاحف وسكان المدينة القدامى، الذين يستعيدون الماضي وغناه، عن متعة الكبرياء التي تعلو المنازل المحترقة.

زُرتُ بعض دور النشر، "الجديد"(رشا الأمير)، "النهضة"(لينا كريدية)، "الريس"(رياض الريس)، وقصدت المكتبات القديمة، وبقدر ما سرَّتني هذه الدُّورُ بمشاريعها على صعيد نشر الرواية والشعر، فقد آلمني قرار إغلاق "مكتبة راس بيروت" في نهاية شارع بلس أمام الجامعة الأميركية. كان اليوم الأخير في حياة هذه المكتبة التي تأسست سنة 1949 على يد أستاذ الأدب العربي في الجامعة الأميركية غطاس كرم، يوم التاسع عشر من كانون الأول/ ديسمبر 2008 أثناء وجودي هناك، فقد وضبت كتبها في كراتين وقررت أن تستأجر مكاناً لدى مكتبة أخرى، والسبب هو أن الجرافات ستهدم المبنى.

ذهبتُ في جميع الاتجاهات، من الحمراء إلى الفاكهاني والبسطة والمصيطبة وبرج أبي حيدر وزقاق البلاط والروشة وفردان والقنطاري والباشورة والنويري والأشرفية وسن الفيل والكسليك والمعاملتين والبسطة التحتا والفوقا، حيث تذكرت القبضايات في قهوة الحاج سعيد، واسترحت في جامع الأحمدين، وعين المريسة حيث ترسو مراكب الصيادين.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها