الأربعاء 2020/08/12

آخر تحديث: 14:43 (بيروت)

خليل حنون... عذراً أيها الملك، نحن العَجَزة

الأربعاء 2020/08/12
خليل حنون... عذراً أيها الملك، نحن العَجَزة
أنطوان كرباج
increase حجم الخط decrease
كنت في الثالثة عشرة من عمري عندما نزلت على درج البناية لأفاجأ بأنطوان كرباج أمامي، وقد خرج من شقة المنتج محمد سعيدون لتدخين سيجارة أثناء تصوير فيلم "الصفقة". نظر إليّ نظرته الثاقبة تلك التي تأسر انتباهك وحركتك. أُصبتُ بصاعقة في لحظتها. ها هو ممثلي الأوّل والمفضل، أمامي خارج الشاشة والحكايات، يقف مواجهاً لي بكامل بهاء هيبته، لا بل ويحدّق فيّ بعينيه الجبارتين وكأنهما آلهة جبل الألمبوس. لم أنتبه إلا وقدماي تعودان بي إلى الوراء ومن دون أن آمرهما بشيء، أَنسحِبُ من لحظةٍ لن أُجيدَ السباحة في روعتها. كنت على شفا الغرق الفظيع بها. انتبَهَ للروع الذي أصابني، فرسم ابتسامة كأنها حضن أمان، فتح فمه ليخاطبني فدخل عليه فريق الفيلم والمخرج وحاوطوه بالكلام والضجيج. تابعني قليلاً بنظراته وأنا أعود بقدمي إلى الخلف حتى توقفت وابتسمت بوجل. ثم هرولت صاعداً إلى البيت.

في عمر الحادية والعشرين، حضرت قبل ساعة من بدء محاضرته لطلاب الجامعة الأميركية عن فن التمثيل. وبعد نصف ساعة كنت أقف في مقدمة صف طويل ومزدحم من الطلبة والأساتذة وموظفي الجامعة. جلست في القاعة، أتأمل كل حركة له وكل كلمة تخرج من فمه لأفهم سر هذا الحضور الساحر وأفك طلاسمه، فيومها كنت طالب سنة أولى مسرح ودراما. وفي منتصف المحاضرة أعطاني السر، يومها قال: "لا أستطيع التمثيل من دون أن استحضر روح مسرح شكسبير، بالضباب الذي يلفّ أحداثه ومصير شخصياته، وأتخيل أيضاً ضباب لندن الذي كان يغمر ممثلي شكسبير أثناء أدائهم لمسرحياته على خشبة مسرح أولد فيك. لا يمكن أن أقترب من شخصية من دون الصياغة الشكسبيرية للكلمات والجمل في بالي. إذا لم أستحضر كل هذا أفشل أو لا أقبل بتأدية الدور".
أتذكر الآن هذا الممثل اللبناني الفذ والنادر بعدما ذكرته الصحافة في خبر صغير إثر الإنفجار الجريمة الذي أصاب بيروت "أنطوان كرباج بخير في مأوى العجزة".

كان يجب أن يستحوا من هكذا عنوان وخبر. يجب ألّا يُقرن اسمه بالعجز. فهذا الممثل أعطى ما عجز عنه جميع السياسيين في هذا البلد. أعطى الفرح والأمل والحب والإلهام لأجيال وأجيال. يجب أن يجلس بخريف عمره الجميل مكان جميع هذه الشرذمة الحاكمة ويحكمنا بعينيه ونظراته فقط، مكان هذه "شبه الدولة" بمجرميها وفاسديها، التي أعطت عجزاً عميقاً وإهمالاً قياسياً أمام أدنى واجباتها وعن إصرار وتعمد، ونحن وقفنا حتى الأمس القريب نتفرج على فظائعها بالهمس والإيماء. عذراّ أيها الملك نحن العجزة.

(*) مدونة نشرها الإعلامي اللبناني خليل حنون في صفحته الفايسبوكية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها