الإثنين 2020/08/10

آخر تحديث: 12:48 (بيروت)

عن حقيقتين في مجزرة المرفأ

الإثنين 2020/08/10
عن حقيقتين في مجزرة المرفأ
بعد انفجار المرفأ، حاول متظاهرون غاضبون اقتحام مدخل ساحة النجمة حيث البرلمان (غيتي)
increase حجم الخط decrease
هناك حقيقتان الآن حول الرابع من الآب.
الحقيقة الأولى، حقيقة أن النظام هو علة المجزرة الكيماوية التي ارتكبت بحق بيروت وناسها الأبطال. الحقيقة الثانية، يريد هذا النظام، بدولته وميليشياته وإعلامه، أن يركبها، أن يصنعها، كي يقدمها لنا حول ما حصل في لحظة الانفجار الذي دمر المدينة ومحا معالمها.

الاختلاف بين الحقيقتين، لا يتعلق بمصدرهما فحسب، بل يرتبط بأثرهما أيضاً.

الحقيقة الأولى، هي حقيقة اقترب الناس منها بأجسادهم، التي، وبفعل شدة الاقتراب، إما قضت نحبها، أو صارت مسكناً للجراح. لقد كان اقتراب الناس من هذه الحقيقة بمثابة ضرب كبير من الألم، بحيث أنه حملهم إليها، كما لو أنهما متطابقان. فلم يعتر الناس ألماً فقط، إنما اعترتهم الحقيقة ايضاً، إذ شعروا بها، وقاسوها، وكابدوها، ومن الممكن الإضافة أنهم مروا فيها. فهذه الحقيقة، وبعدما اقتربوا منها، نقلتهم إلى زمن مختلف، الى زمن تسجله رضّاتهم، وكسورهم، وجلودهم المكشوطة، الى زمن معجون بالغضب والحزن. بالطبع، لهذا الزمن عمران، وليس مطلعه سوى الدمار المفتوح على الشارع. بالتالي، الحقيقة التي اعترت الناس، التي كابدوها، جعلتهم يحطون في زمن وعمران مختلفين، ومنهما، رأوا ان النظام كان قد قوض حيواتهم حرفياً. بهذا المعنى هم شهداء، اكانوا قتلى أو جرحى، لأنهم، وببساطة، شهدوا على حقيقة تفيد أنهم محكومون بالخراب المعمم، بالاغتيال الجماعي، شهدوا على موت أخذوا اليه، وثمة بينهم من عاد منه، وثمة من لم يعد.

هذه الحقيقة، التي انطبع علمهم بها بالموت، التي تطابقت مع ألمهم، التي نمت عن علاقة مع المحال تحمله، تقتضي من بعدها كلاماً آخر، ومنظوراً آخر، ودنيا أخرى، وطريقة وجود أخرى. إنها حقيقة، لا يمكن أن تكتمل سوى بالذهاب إلى نظام جديد، واكتمال الحقيقة هنا يساوي أن تجد سبيلها إلى النسيان، حيث، وإن استدعيت كذكرى، فلا تنتج كل الألم والموت مرة ثانية، إنما تحيل إلى تخطي علتهما.

أما الحقيقة الثانية، حقيقة النظام، فهي التي يريد أن ينتجها، أن يبنيها، أن يكشفها، أن يقدمها لنا. هي الحقيقة، التي لا تعد مشكلتها انها على الأرجح ستكون مفبركة، فحتى لو عمد النظام الى اماطة اللثام عما حصل في المرفأ من دون أي تحريف، حتى لو قدمت حقيقة ما حصل تماماً مثلما حصل، هذا لا يعني انها ليست باطلة. فمشكلة هذه الحقيقة بدايةً هي أن النظام يريد انتاجها لكي يستوي على كونه قابضاً على السر، أي أنه يقوى على الذهاب من معرفته الى سرده. يبغي النظام أن يعيد الناس اليه، أن يجعلهم يقتنعون بكونه يقبض على السر معرفةً وسرداً، بحيث يستطيع أن يفسر به ألمهم وموتهم، فيضبطهم. القبض على السر يعني أنه يقبض على الحديث حولهم، على التحدث محلهم، وبالتالي، يرجعهم اليه بوصفه في موقع المتحدث بإسمهم. لكن، فعلياً، المجزرة التي ارتكبت بحقهم حملتهم الى خارجه، حيث رأوا حقيقة أنه علتها. بالتالي، تبدو حقيقته ضد حقيقتهم، بالأولى يرمي الى نزعهم من الثانية، يعني من أجسادهم، وزمنهم، وعمرانهم، من ألمهم، ومن شهادتهم.

هو يرمي الى نزعهم من كل هذا ليعيدهم الى ما قبل المجزرة، إلى شروطه وظروفه نفسها، الى مساره ذاته، الذي لم يؤد سوى اليها. لا بد من الاعتقاد أن المجزرة كانت بمثابة أوج ذلك المسار، وفي النتيجة، النظام يعقد النية على أن يعيد كل الناس الى أول مساره من جديد، وهذا، بالطبع، لن يؤدي بهم سوى الى مجزرة أخرى. بالحقيقة، التي سيفبركها أم لا، يريد النظام حبس الناس في مساره بعدما صاروا خارجه، وبهذا، ينفي أن تكون المجزرة ذروته، بل يقدمها كما لو أنها شابته لا أكثر ولا أقل.

فهناك حقيقة موقعة بالألم والموت، حقيقة الأجساد المدماة والمكسرة والمقتولة، حقيقة تحمل الى نظام آخر. وهناك حقيقة تريد الارجاع الى النظام، حقيقة رجعية لا تؤدي سوى الى المجزرة من جديد. الاختيار بينهما ليس عويصاً البتة على ما هو واضح، فمن الممكن اختصارهما هكذا: من ناحية، حقيقة الذهاب الى نظام لا مجزرة فيه، ومن ناحية أخرى، حقيقة البقاء في نظام المجزرة، من ناحية، حقيقة بائنة، ومن ناحية أخرى، مجرد وهم لا يتحقق سوى بالعنف.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها