الإثنين 2020/08/10

آخر تحديث: 13:01 (بيروت)

إميل منعم فنان التصميم الصحافي

الإثنين 2020/08/10
إميل منعم فنان التصميم الصحافي
اميل منعم
increase حجم الخط decrease
لم يتفرغ اميل منعم للفن التشكيلي، رغم أنه بدأ رساماً على قدر ملحوظ من الموهبة. درس الفنون في الجامعة اللبنانية، وشارك في معارض عديدة في بيروت وباريس. وفي السنوات الأخيرة لم تبدر منه إشارات إلى أنه يواصل الرسم. زرته في منزله في بيروت صيف العام 2016 ولم أشم في الفضاء رائحة ألوان، وحدثني أنه خصص مساحة في المنزل الجميل لمكتب يعمل فيه. والعمل الذي يمارسه في صورة مستمرة هو التصميم الفني والاخراج، والكتابة من حين لآخر، والقراءة التي لا ينقطع عنها، بل يعتبرها أحد نشاطاته الحياتية الضرورية كالمشي السريع لأوقات طويلة. ويفاجأ كثيرون من الكتّاب والصحافيين برسائل اهتمام، يخبرهم فيها أنه قرأ كتاباً أو مقالاً وله رأي فيه. وعادة ما يكون رأي منعم خارج المألوف والدراج من نقد، لأنه يقرأ بعين مختلفة ولأسباب تخصه وحده. ومرات عديدة، أرسل لي كتباً صدرت في بيروت لكتّاب لبنانيين وغير لبنانيين ينصحني بقراءتها. ونادراً ما وجدت حكمه على الكتاب ليس في مكانه او ينطلق من تحيز ذاتي. وتعبر الالتفاتة من جانبه لشراء نسخ عديدة من كل كتاب أعجبه، وإرسالها إلى أصدقاء في بلدان أخرى، عن سلوك نبيل تجاه القراءة، واحترام لكتاب أحبه، وكرم ثقافي يريد أن يشاركه فيه آخرون.

وحين أتوقف عند القراءة في حياة إميل منعم، فإن ذلك من أجل الاضاءة على زاوية مهمة جداً، وهي نظرة منعم إلى الثقافة والمثقف، وهي آتية على العموم من التربية الفكرية والانسانية والتحولات التي مرّ بها الرسام في مراحل مختلفة من حياته، بدءاً من بيروت وباريس، رجوعاً نحو بيروت والإقامة هناك مع سبق الإصرار وعن وعي وتخطيط، وحين ينظر المرء إلى مسار هذا الفنان فإن الجانب الشخصي لعب دوراً أساسياً في تكوينه الثقافي. وكوني من متابعي تجربة منعم من كثب منذ البدايات، ولأننا عملنا معاً في تجربتين من أهم التجارب في الصحافة العربية الحديثة، يجدر بي العودة إلى الزمن الذي تعرفت فيه إلى إميل في بيروت، وكان ذلك في العام 1978، عندما زرت مكاتب مجلة "فلسطين الثورة" في الفاكهاني فوق مقهى ابوعلي قرب جامعة بيروت العربية، وفي عمق مربع الثورة الفلسطينية، على مسافة 300 متر عن مكتب ابو عمار وأقل من 50 متراً عن مكتب أبو إياد، وفي البناية ذاتها مكاتب للحزب الشيوعي اللبناني، حيث صادفت لاحقاً الأمين العام جورج حاوي، خارجاً أو داخلاً برفقة عدد قليل من الحراسات وعلى محياه ابتسامة ودودة.

وذهبت إلى مقر المجلة في زيارتي الأولى مزوداً برسالتين. الأولى من طرف عبدالله بركات، شقيق الشاعر والروائي سليم بركات، وكانت تحمل أخباراً عائلية. والثانية من الشاعر أحمد دحبور، إلى أحمد عبد الرحمن مسؤول الاعلام الفلسطيني الموحد. وكانت زيارتي للمجلة في المساء لأن سليم يداوم في المجلة مساء، حيث يتولى مسؤولية القسم الثقافي، ويعمل في الصباح في مركز الابحاث الفلسطيني في منطقة السادات في الحمراء. لكن سليم لم يحضر ذلك المساء ووجدت من استقبلني بود شديد ورحب بي، وكان الشاعر العراقي مؤيد الراوي، الذي أهداني ديوانه الأول "احتمالات الوضوح"، وصار ذلك اللقاء بداية صداقة استمرت مع مؤيد حتى وفاته العام 2015، وإن بشكل متقطع ومن بعيد من طريق المراسلة. ويعتبر هذا المثقف والكاتب العراقي أحد الشعراء البارزين في جيل الستينيات العراقي، وكان من مجموعة كركوك التي عرفنا منها، سركون بولص، فاضل العزاوي، عبد القادر الجنابي، أنور الغساني، وجان دمو. ومن طريق مؤيد، تعرفت على اميل منعم، مخرج مجلة "فلسطين الثورة"، وحين انتهى الدوام كان الوقت يقترب من منتصف الليل، فدعاني إميل للنوم عنده كوني وصلت من دمشق وأحمل معي حقيبة سفر صغيرة ولم أحدد مكان المبيت. وكان سكن إميل على مسافة قصيرة في نهاية شارع العفيف الطيبي مقابل جامع عبد الناصر، وفي العمارة ذاتها يسكن سليم بركات والشاعر العراقي صادق الصائغ، وحين أقمت في بيروت بعد ذلك كان أول بيت أقيم فيه غير بعيد من عنوان اميل، حيث يفصل بيننا شارعان فقط، قبل أن تأتي قذيفة هاون من بيروت الشرقية وتخلع الباب، وتدفعني للرحيل باتجاه الحمام العسكري، وكان جيراني هناك معين بسيسو، ياسين رفاعية، والفنان محمد شمس الدين الذي رحل منذ فترة قصيرة.

في الصباح الباكر وجدت على طاولة اميل الصغيرة، ملصقات من تصميه لحركة فتح والحزب الشيوعي اللبناني، وأعداداً من صحيفة "النداء" اليومية ومجلة "الطريق" ومنشورات من دور نشر لبنانية عديدة، وكانت الكتب منوعة بين فلسفة وشعر وسياسة وسينما وفن تشكيلي. وأعطتني هذه الخلطة فكرة سريعة عن الشاب الحيوي والحميم، ووجدت لديه نفساً ثقافياً وسياسياً مختلفاً، لم نعهده نحن السوريين في اللبنانيين الذين عرفناهم من كتاب ومثقفين وصحافيين، وبرز هذا النفس في أوساط الشبيبة اللبنانية التقدمية بعد الحرب الأهلية، والتي اختلفت نظرتها لموقع لبنان وعلاقته مع العالم العربي، وخصوصية العلاقات اللبنانية الفلسطينية السورية. مكثت مع إميل طيلة ذلك النهار، وذهبنا سوية إلى مقر دار ابن رشد للنشر الكائن في نهاية كورنيش المزرعة على البربير، ووجدنا صاحب الدار السوري سليمان صبح، والروائي حيدر حيدر الذي يعمل هناك، وفي المساء التقينا سليم بركات في مقر "فلسطين الثورة"، وذهبنا للعشاء بمعيته وبرفقة إميل ومؤيد، وكان ذلك اللقاء بداية صدقة متواصلة مع أميل تعززت في بيروت وتوطدت في باريس، ومن ثم بيروت والعمل معاً كأول شخصين في تأسيس صحيفة "العربي الجديد" تحت اشراف الدكتور عزمي بشارة، وفي هذه التجربة تعرفت على نحو أعمق إلى أميل الذي نضج أسلوبه في التصميم الصحافي وصار رائد مدرسة لا نظير لها في العالم العربي، وأدهشتني فكرة اختيار طائر السنونو كشعار "للعربي الجديد"، هذا الطائر الذي يبشر ويتكاثر في الربيع، وكان ذلك من طرفه التقاطاً للحظة الربيع العربي الذي هبت رياحه من تونس في نهاية العام 2010.

وحين صدرت صحيفة "العربي الجديد" في الثاني من سبتمبر2014، فإنها لفتت اهتمام الوسط الاعلامي بشكلها ومضمونها. وتم التوقف أمام تصميمها غير المألوف في الصحافة العربية التي كانت في أغلبها تصدر بالقطع الكلاسيكي المتعارف عليه، وجاءت "العربي الجديد" لتكسر النمط ضمن رؤية إخراجية وتحريرية وهوية بصرية جديدة ومختلفة قائمة على دراسة فنية للبناء العام للصحيفة يأخذ في الاعتبار كافة العناصر، من طبيعة المحتوى، ومكانة الخط والصورة، ودور اللون، وحتى الورق في المطبوعة الصحافية. وضمن رؤية هارمونية متناسقة ظهرت "العربي الجديد" بحلة جميلة جذابة ورشيقة، لكنها رصينة في الوقت ذاته، الأمر الذي سهل بناء علاقة خاصة بينها وبين القارئ الذي يعيش في وسط صحافي متخم بالمطبوعات المتشابهة، والتي لا تعطي أهمية خاصة للشكل والتصميم. وفي هذه التجربة اكتشفت من قرب أن منعم نقَل تجربته الفنية بالكامل تقريباً إلى عالم الصحافة، مؤثّراً في حيويتها البصرية وصورتها ومعطياً رؤية جديدة لشكل الصحيفة لم يكن مسبوقاً، ويمكن هنا أن نتوقف أمام الكتاب الذي صدر مؤخرا: "إميل منعم: تنشيط الصحافة العربية عبر التصميم الغرافيكي" لمؤلّفته المصمّمة لارا بلعة عن "دار خط" (Khat Books) المتخصصة في هذا المجال.

أدرك منعم مبكراً الحاجة الى (typefaces) نماذج خطوط صلبة صنعها من خلال رسم أشكال الحروف الخاصّة به؛ وأوصله ذلك إلى التخصّص في التصميم التحريري. وبحسب المؤلّفة، فإن أهمية تجربة منعم تكمن في امتدادها إلى ما هو أبعد من مداخلاته ومساهمته في مجال الرسم والطباعة: فهي تقدّم نموذجاً واقعياً لمصمّم يستطيع أن يعمل وأن يكسب من فنّه من دون أن يمسّ ذلك بقيمه الشخصية، ليشكّل نموذجاً بديلاً للمصمّم التجاري والمساوم الأكثر شيوعاً أو لمصمّم النجوم الذي يسعى إلى الحصول على اعتراف شخصي.

تعرف إميل من خلالي على عدد من الفنانين والكتّاب والصحافيين السوريين، وكانت البداية مع القاص والصحافي الراحل جميل حتمل، ومن ثم امتدت السلسلة إلى نزيه ابو عفش ويوسف عبدلكي وآخرين. ومن طريق اميل تعرفت على عدد من الكتّاب والفنانين اللبنانيين منهم مارسيل خليفة، سيتا مانوكيان، حسن داوود، والقائد الفلسطيني صخر حبش ابو نزار صاحب قصيدة "بدها تزبط"، وبدأت هذه الصلات ثقافية سياسية ومن ثم تطورت لتصبح شخصية وعائلية.

وكما أشرت فإن اميل شخصية جذابة. ودود، منفتح، مستقبل للآخر ومستمع جيد. قارئ ومتابع للنشاط الاعلامي والثقافي والفني، وله موقف سياسي تقدمي ديموقراطي، وهذا أمر يعود في جذوره إلى سيرة العائلة وخاله الخوري الذي رعاه طانيوس منعم، والذي كان يلقب بالخوري الأحمر وهو راعي الرعية المارونية في البترون، ومعروف عنه توجهه السياسي التقدمي وقدم للمحاكمة في أوائل خمسينيات القرن الماضي، لأنه كان يبدأ القداس بمباركة المصليّن برسمه الصليب بيده مع ذكر القول الكريم "بسم الله الرحمن الرحيم"، الأمر الذي تسبّب في حرج لرجال الإكليروس وللمسؤولين الروحيين في الطائفة، بحيث قام المسؤولون عنه بتفتيش غرفته في الدير الذي يقيم فيه فعثروا على كتب تتعلق بالمسيحية والإسلام والماركسية، ما أدّى بهم إلى الإدعاء عليه بتهمة تحقير الشعائر الدينية والتجديف على إسم الله. وبعد محاكمته أمام محكمة التمييز أصدرت قراراً ببراءته. وكان الخوري منعم ظاهرة ثقافية كرجل دين تقدمي، وشاعر، ورجل سياسة. وهذا أثّر بشكل كبير في إميل وحتى بقية العائلة التي كانت منفتحة على الطوائف الأخرى لجهة المصاهرات مثلاً.

ربطت اميل منعم صداقات ذات وزن خاص مع شعراء مثل محمود درويش، وأنسي الحاج، وهذا أمر يمكن أن نعطفه على حساسية هذا الفنان تجاه الكتابة الشعرية والكلمة التي يعاملها باحترام شديد حتى يجعلك كصحافي تزِنها بميزان الذهب قبل أن تضعها في بناء الجملة، وهذا يظهر حين كنا نناقش مانشيتات الجريدة وعناوين المقالات التي يجب أن تكون جذابة ومختصرة وتوصل الفكرة، ويأتي دور الرسام ليرى الفكرة بعينه قبل أن يضعها على الورق، ومن ثم يكيف المساحة لتظهر الصفحة الأولى للصحيفة في هيئة تستوقف القارئ كما لو انه يتفرج على "فيترينه"، وهذه تبدو من جانب قضية فنية جمالية، لكنها لغوية قبل ذلك. وفي جانبها الفني الجمالي اكتسب اميل اهميته كمصمم من خلال نقل الإخراج الصحافي إلى أفق جديد، ووضع له مواصفات وقوانين وقواعد مثلها مثل بقية المعايير المهنية المعتمدة في العمل الصحافي، وتقوم على المواكبة والتكيف من خلال فهم قيمة التصميم بما يتجاوز الحرف والتكنولوجيا، وكان قادراً على متابعة تقنيات الطباعة والإنتاج المختلفة على طول الطريق، من التنضيد اليدوي والتنضيد الضوئي إلى التصميم الرقمي المعاصر.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها