الأحد 2020/07/05

آخر تحديث: 10:31 (بيروت)

علي بدر... عن محمود درويش ولقاء سيوول

الأحد 2020/07/05
علي بدر... عن محمود درويش ولقاء سيوول
علي بدر مع بعض الكتاب الاسيويين
increase حجم الخط decrease
تعرفت على محمود درويش في العام 2006 في سيوول عاصمة كوريا الجنوبية، في مهرجان فخم للكتّاب الآسيويين نظمته مجلة شهيرة اسمها آسيا، قابلته في معبد جنجو إذ نظم المهرجان سفرة للكتاب هناك، معبد صغير ترقد فيه الآلهة مثل لعب الأطفال خلف النار والدخان بينما يقف الكاهن متأملاً، وقفة صامتة أشبه بتأمل الفيل في الديانة البوذية حيث يقول بوذا "أن الفيل هو الأكثر حكمة بين جميع الحيوانات، وهو الوحيد الذي يتذكر حياته السابقة؛ ويظل بلا حراك لفترات طويلة ليتأملها".
كانت النار تنعكس على وجه الكاهن وتضيء المعبد خلف ردائه الأصفر، وكان محمود درويش يقف مع كتاب آخرين أشبه بحطاب القرية أو كاهن طائفة ما يقف وسط شذى الروائح في المحراب. حين رآني قادماً نحوه تقدم هو الآخر وشدّ على يدي بحرارة قال لي إنه يتابع ما أكتب وأخبر فخري صالح الذي يقف إلى جانبه من أنه أعجب بمقالة كنت كتبتها عن سركون بولص قبل أشهر من هذا الحدث. وهذا نادرٌ بين الكتّاب العرب، فهم بالدرجة الأولى يتجاهلون بعضهم البعض، حتى وإن عرفك الكاتب العربي فهو يدعي أنه لم يسمع بك أبداً، وبهذا يحقق لنفسه تفوقاً حتى وإن كان وهمياً عليك. ومما أدركته ومن الوهلة الأولى أن محمود درويش ليس شاعراً كبيراً فقط إنما شخصية حاضرة بقوة له هيئة متميزة جداً، لا يمكنك أن تخلطه مع أي شخص آخر على الإطلاق، فصوته قوي يتلاءم مع فرديته التي تثير الاهتمام حقاً، وهو حيٌّ على عكس الكتّاب العرب بسحناتهم الشبيهة بسحنات الموتى ورثاثتهم الفاضحة.

بقينا في المهرجان أكثر من أسبوعين، كنا نلتقي يومياً تقريباً في مقهى على مقربة من محطة القطار يؤمّه الأوروبيون والكوريون الأثرياء، يبدو هذا المقهى جميلاً في ساعات النهار ومهجوراً في الليل تقع على مقربة منه بعض الحانات التي يرتادها الجنود الاميركيون حتى نجوم الليل الأخيرة، يكون محمود في الغالب إما وحيداً أو مع صنع الله إبراهيم، إذ ألتحق بهم أنا بعد أن تنتهي ندوات المهرجان ونبقى نتحدث أو نستمع إلى غناء البحارة في الهواء المنعش والنقي من الليل، تحت مصابيح الشوارع الآسيوية المبهجة.

لم يكن محمود يحضر الندوات إلا قليلاً، ولكني كنت منخرطاً بعمق في جميع أنشطة المهرجان وندواته، وخصوصاً تلك التي تتعلق بمصير آسيا، فقد مول المهرجان ملياردير كوري، يطلقون عليه لقب المليادير الأحمر، لأنه ماركسي راديكالي على درجة رفيعة من الثقافة، يرتدي ملابس العمال الزرقاء على الدوام وبيده كتاب لا يفارقه، على العكس من طاقمه الأنيق والمنظم بصورة هائلة. هذا الملياردير ذو الوجه الباسم والسلوك المهذب، حيث ينحني لكل شخص يقابله، يعتقد أن الحضارة الغربية آيلة إلى الزوال وأن آسيا هي البديل الطبيعي وليس الافتراضي الذي سيحلّ حتماً محلّ الحضارة الغربية، وهي الوريث الحقيقي والاعتباري لحداثتها. وبما أن آسيا ترتكز الى فلكلورها الإنساني والثقافي كأمم قديمة إذن ستقوض الاقتصاد الرأسمالي وقوانينه، وستقود العالم نحو مجتمعات تتمتع بالعدالة الإنسانية والمزيد من التساوي وعلى درجة عالية من الفضيلة والحكمة وذلك بإلغاء التمايز على أساس العرق والطبقة واللون واللغة.

وعلى هذه الفكرة الحقيقية أو المتخيلة دعا هذا الملياردير أكثر من مئة كاتب من آسيا وبعض كتاب أفريقيا (من الكتاب العرب: محمود درويش، صنع الله إبراهيم، نوال السعداوي، سلوى بكر، فخري صالح، وأنا)، لإحياء ندوات ونقاشات فكرية صاخبة ومتعددة، كان المهرجان حدثاً كبيراً في مدينة ثقافية اسمها باجو من ضواحي العاصمة سيئول، والأجواء الثقافية مترعة بالنقاش والعمل، من يراها يقول أن آسيا ستنهض بعد قليل، شيء من استحضار الماضي، والماضي هو آسيا من دون شك يوم عبر آندريه مالرو كمبوديا وسيام وهو يبحث عن آلهة الديانات المختفية. كنت أفكر برحلة مالرو في الطريق الملكي وأنا أحيي الليل مع بعض الكتاب الآسيويين في الشوارع الخالية حتى الفجر، حتى رأيت الشمس وهي تبزغ. إنها شمس آسيا العظيمة وهي تشرق واضحة على أفق البحر، مثل قرص أصفر يخرج ببطء من وراء المياه الساخنة، حيث مراكب الجونك الصدئة ووجوه الصيادين أشبه بوجوه الآلهة المصنوعة من البورسلين، آلهة بوذا التي رأيناها قبل أيام في معابد بكين وفي جزيرة بيننانغ الماليزية. فقد غادرنا للتو المناطق الاستوائية التي يتصاعد منها بخار الماء فبان شروقها المضيء وهي تلقي بشعاعها على المعابد التي تخرج منها النار والدخان، معابد بوذا حيث يحترف الكهنة إشعال البخور والتأمل في الأدغال البعيدة، وحيث الفلاحون الكوريون يجرون دوابهم عند حافة مزارع الرز التي تنبعث منها رائحة الخريف والمناخات الساخنة.

"لقد تغيرت كوريا كثيراً" قال لي الملياردير الماركسي مرة وهو يشير لي بيده إلى ناطحات السحاب. كنا نقف في شرفة من شرفات الفندق، قال لي "انظر لقد تغيرت على مدى أقل من قرن من نهاية الحرب الكورية، منذ أحرقت الطائرات الأميركية المزارعين المتمردين ودوابهم ومنازلهم المصنوعة من القش بالنابالم".

كنت أشعر نبرة التحدي في صوته. وحين يشير بيده التي تشبه يد عتّال أشعر بأن التاريخ تغيّر أيضاً.

نعم لقد تغيرت كوريا كثيراً، ما عدنا نرى المنازل المغمورة بالمياه، وبدلاً منها صرنا نرى ناطحات السحاب مثل واشنطن أو نيويورك، هناك رأينا معابد جديدة، تشبه المعابد في موسكو ذات المنارات التترية، ولم يعد الرهبان يسلكون طريقاً شاقاً في الوصول إليها كما في زمن بوذا أو زمن كوايتون إنما عبر قطارات المترو والترام الحديثة.

وفي يوم وقفنا في باب معبد جنجو نحن ستة أو سبعة كتاب، بيننا محمود درويش وصنع الله إبراهيم، وقفنا نحيي آخر عهود الإمبراطوريات الآسيوية العظيمة، آخر موجاتها التي لا ترحم والتي تتهدم في الغالب على أرض العراق، قلت لهم: "أن العراق جزء من آسيا، لكنه الأكثر خوفاً منها. فقد وضعته لا الجغرافيا فقط إنما التراث الروماني البيزنطي أيضاً حاجزاً لصدّ الموجات الآسيوية كي لا تتوغل إلى الشرق الأوسط".

"لكنه آسيوي" قال محمود.
"نعم آسيوي لكنه معجون بالثقافة الرومانية البيزنطية عبر العنصر السرياني الذي يشكل مركز تشكله الروحي، وعبر التراكم التاريخي القادم من المتوسط، والتراث الإشراقي في التصوف المسيحي الذي أحياه في قلب الإسلام، وفي مطبخه حيث يشكل الخبز إدامه بينما وحّد الرز كلّ المطبخ الآسيوي من إيران إلى اليابان".

ابتسم صنع الله إبراهيم، قال أنت تذكرني بموقع مصر بين آسيا وأفريقيا وأوروبا.
قلت له: "لكن العراق خائف دوماً، خائف من النزعات والتيارات العسكرية الترابية المهددة لتراثه البحري، خائف من التتار في الماضي وخائف من إيران هذه الأيام، وهو بنزوعه إلى ثقافة المتوسط وبوجوده على حافة آسيا، تتنازعه فكرتان وعقيدتان سياسيتان واحدة تنتمي إلى أوربا، تمتد من الرومانيين والبيزنطيين إلى الاستعمار الإنكليزي في العصر الحديث، وفكرة آسيوية مقاومة من التراث الفارسي إلى العقيدة الشيوعية منذ تطبيقها في روسيا والتي تنتمي إلى التراث الآسيوي وملحقاته على العكس من الماركسية التي تنتمي إلى أوروبا".

كان النقاش يحتدم، لم نكن كتاباً عرباً وحدنا إنما هنالك الكاتب السنغافوري كو باو كون وهو مثقف من طراز رفيع، اشتهر بمسرحيته "التابوت أكبر من الحفرة"، والكاتبة الهندية شيترا ديفاكروني المعروفة بروايتها "محظية التوابل" والتي تصور الهند عبر تاريخها الاستعماري واستكشاف عالم السياسة والفساد في مرحلتيها الوطنية والاستعمارية، والكاتب الصيني مو يان الذي حصل على جائزة نوبل بعد أعوام من المهرجان وكانت روايته "لعبة الحياة والموت" من الأعمال الروائية الفخمة التي تناولت الثورة الثقافية في الصين ترجمها إلى العربية لاحقاً فرج الترهوني. والكاتبة الماليزية زن شو وروايتها "آخر المستعمرين" والتي حظيت بتقدير غربي عالٍ وترجمت إلى عشرين لغة، والفيتنامي بن نيناه وروايته حزن الحرب وقد كان جندياً مقاتلاً في الجيش الأحمر.

في يوم سألني الكاتب الفيتنامي بن نناه ماذا يلفت انتباهك بشعر درويش، كان درويش جالساً أمامنا قلت له "تعلقه بالأرض" قال محمود "هذا طبيعي أنا شاعر أرض" كنت أقصد على العكس من الكثير من الكتاب العرب الذين كتبوا عن فلسطين كان تعلقهم بالصراع أكثر وهو ما لفت انتباه الكاتب الإسرائيلي عاموس عوز أيضاً (سأكتب عن لقائي به لاحقاً)، ومن هنا تأتي أهمية شعره، فلا يمكن التفكير بشعر بمحمود درويش من دون التفكير بالأرض، فهو شاعر يتعلق بالأرض وبتحولاتها، يذكرني على نحو ما بما كتبه الشاعر الأرمني جون أولبيان في العام 1932 "وأنت أيتها الأرض ماذا نكون بعد فقدك" فماذا تكون فلسطين بعد العام 1948 إن لم تكن هي أول تبعثر في التاريخ لأمة في أمم الآخرين، هي أول تحول صادم من أمة إلى هامش أمة، وتحول الساكنين المتجذرين إلى مقتلعين ومنفيين. وشعر محمود درويش يعنى بهذا الحدث كإزاحة واحدة شكلت مركزية أثنية إزاء جماعة مقتلعة وغير موجودة إلا في إطار افتراضي، نوع من الديموغرافيا خارج الديموغرافيا، وهذا ما لم يحدث قط في التاريخ، وهكذا ترى فلسطين في الفلسطينيين، ولا ترى الفلسطينيين في فلسطين، وقد حدثت سلسلة من التواريخ الخارجة والانشقاقية تبعاً لذلك: شرخ في الصلة بين الشرق والغرب، انتاج غزير من النثر المتجهم، وشعر محمود درويش يتركز حول هذا، حول فلسطين في أرضها وخارج أرضها، حيث يولد الفلسطينيون من كل التجمعات الطارئة: من مخيمات اللاجئين، من ساعات المقاهي، من حواف وأطراف المدن، من أسرة الأوتيلات، من باصات المسافرين، كما لو كان هنالك زمن أبدي للرحيل، كما لو كانت هنالك استعارة واحدة تنهي البلاد معها في نوع من المجاز الخالص، ومع زمن الهجرة تبدأ هذه الزحزحة التاريخية: تبعثر أمة في أمم أخرى، تبعثر زمن في أزمان الآخرين وغياب مكان عن مكانه، ومحاولة إيجاده في أمكنة الآخرين.. هذا ما أورده مرة المؤرخ اليهودي إريك هوبسباوم Eric Hobsbawm وهو يكتب موسوعته الكبيرة عن تاريخ الأمة من منظور المهاجرين والمنفيين في أمم أخرى، لقد افتض هوبسباوم بنثر حي ومتفجر هذا الأرشيف المعقد والإشكالي على حد سواء في تاريخ الأمم، وهو تاريخ خفي على الدوام، لقد أبرز على نحو فظ هذا الخرق الذي تمت بلورته حول مواضع التمثيل غير المتكافئة، فهنالك تاريخ من التمييز وسوء التمثيل، بل هنالك تاريخ كامل من الانتهاك، إن تاريخ المستعمر كما أظهره هوبسباوم مع ظهور الامبراطوريات هو الذي أشعل مخيالا اجتماعيا كاملا، قائما على التحيز، وهو ما نرزح تحته اليوم كلنا، وهكذا بدت لي فلسطين وأنا مستغرق في قراءة الفصل الثالث من عصر الإمبراطورية 1875-1914، وكنت أتساءل: كيف ولدت هذه الاستعارة اللغوية من أرشيف كامل مخبوء ومخفي، وكان من القوة بحيث أنه حول أمة موجودة وكائنة إلى أمة غائبة، كما لو أن اعتباطية الدوال قدمت أشد التوصيفات بلاغة ليوم النكبة، حيث قابلتها استعارة أخرى في إسرائيل هي "يوم النصر" كما لو كانت هذه الاستعارة قادمة من زمن آخر ومن مكان آخر.


كتب ماركيز في "مشاهدة المطر في غالسيا" بأنه من تلك التجربة نما اهتمامه في اقتفاء أثر نسب تلك النكهة، و في البحث عنها، ذلك أن المدن لا تتشكل إلا عن طريق العلاقات الأدبية وهذا ما أدركه الساكنون الجدد لفلسطين، لقد أدركوا على نحو متواصل منذ موشيه سيملانسكي وبياليك أن تشكل بلاد جديدة لا يتم إلا عبر سرديات جديدة، هكذا يصبح التخييل عبورا للثقافات القومية المتجانسة، وانتقالا للتراثات التاريخية عبر الاستيطان، وتحولا فذا للقومية الهامشية إلى قومية عضوية، ليتحول بعد ذلك الموت الحرفي والمجازي للفلسطينيين إلى موت حقيقي، ويكون السرد النامي والجديد في الثقافة الإسرائيلية المبتكرة موجودا وقائما على حطام ثقافة وفلكلور الفلسطينيين، للمرة الأولى يتحول الاستعاري إلى حقيقة مادية ووجود دولة، وتتحول أمة الفلسطينيين إلى وجود افتراضي وعائم، هذا ما أدركه بعمق بنديكت أندرسون في كتابه الفذ الجماعات المتخيلة والصادر في العام 1983، ذلك أن الأمة لا تدرك إلا من خلال عملية تخييلية يكون فيها الأدب عنصرا دافعا، وهذا ما جعل الأدباء الإسرائيليين برمتهم يدركون أن الأدب والقومية شيئا واحدا.

بعد سنوات أصبح الفلسطينيون بدلا من اليهود أمة مشردة، لتنبعث الأرض مرة أخرى، لا من أسى الفقراء المقاومين فقط، إنما من قصيدة، من نثر متجهم، من منظور كتابي، من عوالم ثقافية متباينة ومتفاوتة موجودة في غير مكان، من ذاكرة تاريخية ووجدانية تراجيدية، لقد بدأت فلسطين حياتها الجديدة من شعر محمود درويش. ولكن كيف؟

في يوم كنت جالساً في مقهى من مقاهي باريس، كانت الرياح قد صفرت في أول المساء، نثرت ندف الثلج معها على طول الشارع الملآن بالبنايات العالية ذات الواجهات المضيئة، هنالك ضوء خفيف يذوب في العتمة وأنا أضع كتاب إريك هوبسباوم أمامي وأقرأ في جزئه الأخير الذي يتحدث عن المنفى وهوامش الأمة، فأحس على البعد بشيء من الأسى، وبشيء من الكرامة المهدورة، ذلك لأن فلسطين لا تمثل الرحيل المبكر والغياب لوعد العرب بالخلاص، إنما هي نوع من الهزيمة المنكرة، هي الطرد من التاريخ، وهي مضاعفة الأسى أيضا ذلك لأن الخروج من التاريخ ليس خداعا إنما هو الانخلاع البطيء من المكان والزمان متزاوجين.
كان الرجل الجالس على حاجز البار على مقربة مني هو الآخر يقرأ بكتاب صغير، ولا أدري كيف شممت من ورقه رائحة أليفة، كما لو كنت أشم رائحة نشارة خشب في دكان، كان يضع أمامه صحن المقبلات وزجاجة البيرة، وأنا أنظر حذاءه المخطط متهرئا من بلل الثلج، تتأرجح ساقه اليسري في بطء أعلى الأرضية، فجأة توقفت ساقه وأخذ يشرب من الزجاجة وبشكل غير محسوس قرأت عنوان كتابه، كان ديواناً لمحمود درويش مترجما إلى الفرنسية، بعد أن مسح فمه نظر لي، فأثار فضولي لأسأله بالفرنسية: "هل أنت من فلسطين؟"، قال: "لا أنا من إسرائيل".

وفي اللحظة التي رأيت فيها محمود درويش لمعت في ذهني ساق الرجل الإسرائيلي الذي التقيته في باريس وهي مبللة تتأرج في الفراغ.
بعد نهاية المهرجان عاد محمود درويش وصنع الله إبراهيم في الطائرة إلى الشرق الأوسط، الشرق المتوسط كما سماه يوما عبدالرحمن منيف، أما أنا فقررت العبور إلى فيتنام ولاوس وكمبوديا في رحلة تقوم على جغرافيتها الثورية وليست السياحية، وهكذا عبرت مع الكاتب الفيتنامي بن نناه والكاتبة السنغافورية جنيتا تاي في يوم عاصف على ظهر قارب من أيام الحرب تحول إلى قارب صيد، عبرنا البحر الأصفر ثم بحر الصين، قاصدين مدينة (سايغون) والتي سميت على اسم القائد الفيتنامي هو شي منه حيث حضرنا الاحتفالات السنوية لدخول جيش العقيد نغوين توان حديقة القصر منتصراً، وجلاء آخر الجنود والموظفين من السفارة الأميركية. على ظهر ذلك المركب العتيق جلسنا على المقاعد الخشبية قبالة ركاب آخرين من ملاوي والفلبين وسومطرة نقاوم دوار البحر، ملابسنا وأمتعتنا منقوعة تماماً، وكان البحارة يترنحون في الضباب الذي يتصاعد من المياه الساخنة بعد عمل على مدار الساعة، وفي الليل تصرخ الريح ويتطاير الرذاذ كما لو أن القارب يغرق أعمق وأعمق في حوض البحر وفي أمواجه المتقلبة. وهي المشاعر ذاتها التي اختبرتها في القوارب التي حملتنا من لشبونة إلى سان فيسنتي قبل أعوام حيث تتقلب دوامات الموج وتتجعد مثل ورق القصدير قبل أن يظهر القمر الخفي من بين الغيوم في ذلك المد العاتي وفي تلك الفوضى، فنشعر بعد جنون الطبيعة وغضبها اللامعقول بالرحمة الإلهية والهدوء والصفاء الذي لا تشوبه شائبة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها