الأحد 2020/07/26

آخر تحديث: 10:32 (بيروت)

في مديح التعلم الذاتي

الأحد 2020/07/26
في مديح التعلم الذاتي
التعلم الذاتي
increase حجم الخط decrease
يحمل الحديث عن الجامعة في لبنان الى مديح التعلم الذاتي تأكيداً على قيمته. ففي بلد كلبنان حيث الاكاديميا منتهية الى دورها الرئيس، وهو المد بوثيقة قد تعين على التفتيش عن فرصة عمل، يبقى ذلك التعلم السبيل الاساس الى ما يمكن تسميته بعملية المعرفة، أي عملية اكتسابها وابداعها.
من الممكن السعي الى تعيين هذا السبيل باختصار.
ينطلق التعلم الذاتي من ضرورة ما، تتعلق بشأن أو حالة أو حاجة إلخ. أي تتعلق بوضع واقعي على العموم، بحيث تحض على عملية المعرفة حياله. بالتالي، تقترن هذه المعرفة بالضرورة، وتواصل حملها على طول عمليتها، لتصير معرفة ضرورية، تعين على أمر محدد، وهو، وببساطة، تدبر المغادرة من ذلك الوضع. ولأن هذه المعرفة تعين على هذا التدبر، فهي تستلزم اثبات الإقامة في الوضع إياه، وهذا الاثبات يدعى الجهل. فلا بد من اثبات الجهل من أجل الشروع في عملية المعرفة، واثباته لا يفضي الى جعل المعرفة تطيح به طبعاً، إنما أن تتآلف معه، بمعنى آخر أن تدور بنقصانها، أن تحافظ على نقصانها. المعرفة الضرورية هي معرفة ناقصة، ولهذا، تتيح التقدم من الوضع الى خارجه، ففي حال جعلها تامة، في حال تصورها كذلك، فهي تعلق فيه، بمعنى لا تسنح سوى بتكريسه.

ولأن التعلم الذاتي هو ممارسة لعملية المعرفة من أجل المغادرة من وضع، فهذا، يتطلب أن تستند الى طريقة. ربما، يصح تعريف هذه الطريقة بعبارات الشاعر آرثور رامبو: تركيز الدوار. أول هذا التركيز هو اكتساب القواعد (عبر القراءة، السماع، المشاهدة...)، ثم تكرار هذا الاكتساب، إلى أن ينقلب مجال هذه القواعد عالماً قريباً. وفي اثر التكرار، هناك تلك اللحظة المفاجئة، أي لحظة التلقائية، التي تفيد بأن المتعلم قد صار في معرفته. ولكن، أن يصير في المعرفة، فهذا لا يعني أن يتوقف عن عمليتها، على العكس، أن ينسى نفسه في ذلك التكرار، الذي سيحمله الى شيء معين، وهو إيجاد حيزه في المعرفة، اي الحيز الذي يسمح له أن يتمكن من عمليتها، بعبارة واحدة: يصير له مكاناً فيها.

المكان في المعرفة؟ من المتاح القول إنه "الأسلوب"، الذي يعني، في هذا السياق، امتلاك قلب في المعرفة، ولادة فيها، طالما ان "الأسلوب هو القلب" (ليو فيري)، كما أن الأسلوب أيضا يرتبط بالسلب، سلب المعرفة اياها من جهة معينة. دوماً، وحين تنتج ممارسة العملية، وعلى متن الاكتساب والتكرار، اسلوب ما، فهي تسلب تاريخ المعرفة، بمعنى المهمين فيها. فيكون الأسلوب علامة على حدث فيها.

بالإضافة إلى ذلك، من الممكن القول إن الأسلوب هو مفترق في الطريقة، فهي، وإن بدأت ككل طرق التعلم بشعور سلبي مفاده التشكيك في الاقتدار، "لا قدرة لي على فهم هذا الأمر"، تنطلق، في إثر الأسلوب، بجعل ذلك الشعور بمثابة لازمة للتخلص من اليقين، يقين الـ"انا اعرف، ولي قدرة على معرفة كل شيء". فالاسلوب، عدا عن كونه فن الإيقاع، إيقاع السير في سبيل عملية المعرفة، إنما هو فن تجنب الوقوع في فخ اليقين، والثقة بالذات. قد يكون الأسلوب هو الذي يحمل إلى مواقف لامعة من قبيل "غالبا ما اعتقد أنني لست رساماً بل وسيطاً للحادث والحظ" (فرانسيس بيكون).

ماذا بعد الأسلوب؟ هناك مغادرة الوضع، الذي انطلقت من ضرورته عملية المعرفة، ومغادرته تؤدي إلى تغيره، إلى تحديده، ليصير موضوعاً. فالتعلم الذاتي لا يبدأ بتناول موضوع، إنما يفضي الى صناعته، وهذا، ليس من اجل السيطرة عليه، أو للاطاحة به بل لتركه وشأنه: انشاء موضوع المعرفة من أجل تحريره من المعرفة. على هذا النحو، لا وجود في التعلم الذاتي لمقولة "متمكن من موضوعه"، بمعنى ضابط له، بل هناك ما يشبه الصداقة معه، الصداقة بما هي علاقة معه لجعله يتبلور قبل أن يصل إلى أوج تبلوره في كونه غير قابل للضبط. إذ ان ذاتيي التعلم ليسوا ضباط معرفة، بل هم، وعلى الأرجح، من لاعبيها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها