الجمعة 2020/07/24

آخر تحديث: 16:33 (بيروت)

نحن المُودِعين (المواطنين سابقاً)

الجمعة 2020/07/24
نحن المُودِعين (المواطنين سابقاً)
(تصوير: علي لمع)
increase حجم الخط decrease
صراخ السيدة في الفيديو الذي تناقله اللبنانيون، أمس، لم يكن مجرد بركان غضب وقد انفجر -بمظلومية لا لبس فيها- في وجه موظفة في مصرف. بل كان إعلاناً على الملأ للسرّ الذائع منذ نحو سَنَة: تحوُّل لقب "المُودِع" إلى مُعرِّف أول لصفة المُواطِن، معناه الجديد والوحيد. المودِع، لا زبون المصرف، لأن هذا الأخير له حقوق يكفلها القانون، وهي واضحة في العقد المبرم مع المؤسسة، يُحاسَب البنك إن خرقه، يُوكل بالقضية مُحامٍ وينظر فيها قاضٍ وتصدُر بشأنها أحكام نافذة.. فيما الأحكام التي تصدر اليوم، فتات، حبر على ورق. والبنك أصلاً، في ذلك العالم القديم ما قبل الانهيار المالي اللبناني، كان مثل أي مطعم أو محل تجاري، همّه المنافسة على إرضاء الزبائن الذين يأتون لشراء خدماته المصرفية والمالية.


أما هذه السيدة، فهي الآن مُودِعة، فقط، ويُتوقع منها أن تكون وادعة ووديعة أيضاً. كلمة "مُواطِنة"، الحدّ الأدنى المتبقى من دلالتها المقوَّضة على امتداد العقود الماضية، صفَّرت عدّادها أخيراً على حَمل بطاقة هوية لبنانية، أي أن لها في هذا البلد قَيداً ونفوساً، لا أكثر. هي مودِعة، في المصرف كما في الشارع والسوبرماركت، في الدوائر الرسمية ومكان العمل. فتفاصيل الحياة كلها باتت مُعرّفة ومحددة بمُنظِّمات هذه الذات المستجدة، الخاضعة، المُستبَد بها. يمكنها أن تصرخ، أن تشتم، أن تعتصم داخل المصرف حتى بعد موعد الإقفال، فلا تختلف بذلك عن ثوار صاحوا وهتفوا وشتموا، أمام السراي وقصر بعبدا وفي ساحة النجمة، فضُربوا وخُنقوا بالغاز وفقدوا عيوناً وأصابع، وفي النهاية: لا شيء. هؤلاء، مثل مواطنتهم، مُودِعون. لهم في المصارف ما لهم، ولهم لدى الدولة حقوق محجوز عليها تُصرف بحسب مزاج السلطة ومصالح بقائها في السُدّة. 


في بواكير الثورات العربية، كان المحتجون يضرمون النار في أنفسهم في الشارع، أو أمام مقار رسمية، ومنذ أشهر نسمع بلبنانيين يسكبون البنزين على أجسادهم في ردهات المصارف مُهدِّدين بولّاعة.

المودِع بيدق بلا صوت، مهما صرخ. بلا إرادة، بلا "أنا". هذه هي المُواطَنة اللبنانية الأصدق. أموال السيدة التي صاحت، مرتجفة بغيظها، أنها لم تقطفها عن أغصان الشجر، مُقفَلٌ عليها في صندوق أسود، ولا تملك قرار التصرّف فيها، ما عادت تملكها، بل لها منها ظِلّها، رقم افتراضي في شاشة، ومثلها ملايين اللبنانيين. ومن ضمن سلسلة الإجراءات التعسفية التي تدير بها المصارف -محميّةً بالسلطة- أكبر جريمة سرقة جماعية في التاريخ الحديث، ارتضت السيدة جمع كل ما طُلب منها من وثائق ومستندات لتتمكن من تحويل المال لشقيقها الذي يدرس لشهادة ماستر في الخارج. ولما اكتمل الملف، فوجئت بقرار جديد: التحويل لطلاب في الخارج مسموح به فقط لطلاب البكالوريوس، وليس الماستر أو الدكتوراه. نقطة. فَرَمان جديد، الحاضر يُعلم الغائب، والمصرفي يسدد سبّابته إلى صدغه لأنه حرّ ولا شريك له... فيما شركة "الميدل إيست" للطيران، التي يملكها المصرف المركزي اللبناني، تحوّل مداخيلها من تذاكر السفر إلى حسابات في الخارج.

وفرمان آخر مشابه، رَوَته صديقة في "فايسبوك". تخرجت ابنتها في واحدة من أبرز الجامعات الخاصة في بيروت، مع مرتبة الشرف، ولما كانت سوق العمل اللبنانية على حالها المزرية، قررت السفر إلى أوروبا لإنجاز الماستر، لكن.. ليست هي من يقرر إن كانت ستسافر أو تدرس، ولا أهلها، ولا حتى الجامعة التي أرسلت لها القبول بالفعل. بل المصرف، بطريرك هذا الزمان: لا تحويلات خارجية لطلاب جدد، ثم "لشو بدها تكفي برا؟ ما شايفة الوضع؟"! أما الطلاب "القدامى"، فما زالت صيحاتهم تتعالى عبر مواقع التواصل الاجتماعي لـ"تحرير الدولار الجامعي" الذي يكذب وليّ الأمر الواقع بشأن توافره لهم.

والمصارف، التي تتفيأ بمظلة "مصرف لبنان"، المفلسة الفاشلة المارقة، مثل الدولة شريكتها في هذه المَنهَبة، عينها الآن على الممتلكات والأصول الحكومية بحسب تسريبات صحافية من الاجتماع المالي في السراي، لينطبق هنا مثل شعبي مفاده: "لم يرهم أحد وهم يسرقون، لكن الكل سمعهم يتقاسمون الغنيمة". وكأي قبضاي في زاروب، تشدد المصارف على "حماية" أموال المودعين من "الهيركات"، فيما تفرض "الخوّة" بما ترتأي تسييله بالليرة اللبنانية وبالسعر الذي تريد.

ولهذا القبضاي، طُمُوح. خطابه في "تويتر" ليس أقل من دولتيّ ذي رؤيا، يختزل حكومة بأكملها ويقدم النصائح والدعوات لسياسات اجتماعية واقتصادية ومالية. يتحدث كسلطة من فوق، وفي الوقت ذاته كمُمثل مُنتخَب من تحت، من الناس الذين ينتحل التعبير عنهم غصباً عنهم، ويندب كقطاع مظلوم يدافع عن نفسه. وإذ تطالب المصارف، الدولة، بعقارات الواجهة البحرية وجزء من واردات شركتي الخلوي، لسدّ مديونيتها لها، ترفض إعلان رقم دقيق لخسائرها، أي أموالنا، نحن المودعين المحكومين بمُرابين.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها