الإثنين 2020/06/08

آخر تحديث: 13:08 (بيروت)

"منصة" غالدير أوروتيا...الجوع يجلب الجنون والإنسان يأكل نفسه

الإثنين 2020/06/08
"منصة" غالدير أوروتيا...الجوع يجلب الجنون والإنسان يأكل نفسه
الإنسان يخفي وحشيته خلف غرائزه
increase حجم الخط decrease
يتردد الإنسان متأرجحاً بين منازل مختلفة في مجتمعٍ "ديستوبي"، لا يصلح لنمو انسانيته بل هو يجرده منها شيئاً فشيئاً. وأن خسائر الإنسانية متراكمة ومستمرة في ظل نمو أنظمة الاستغلال والإذلال. في المقلب الآخر قد ينتهي بنا الأمر، بأن نصبح مخلوقات من نوع آخر كان اسمه "إنساناً". وفي خضم هذه فوضى من جوع وأوبئة، يعرض فيلم "المنصة" بقصته السوداوية في "نتفليكس". يبدأ الفيلم بأشخاص يعدون الطعام على وقع موسيقى هادئة ورجل يراقب خطواتهم بدقة، يوحي إليك بأن حفلة أرستقراطية على وشك أن تبدأ. ثم صوت عجوز يقول "هناك ثلاثة انواع من الناس: من هم بالأعلى ومن هم بالأسفل ومن يسقطون". الفيلم الإسباني من إخراج غالدير أوروتيا، عُرض للمرة الأولى في فعاليات قسم "جنون منتصف الليل» ضمن مهرجان تورنتو السينمائي الدولي خلال سبتمبر 2019...

يستيقظ غورينغ الذي تطوع لدخول السجن للإقلاع عن التدخين وقراءة دون كيشوت (يُسمح للجميع بإدخال شيء واحد فقط)، الذي يلعب دوره إيفان ماساجي مع زميله الأول في الخلية  العجوز تريماغاسي (زوريون إيجويلور) في المستوى 48 من مكان يشبه السجن العمودي.  في المنتصف تنحدر منصة (عبر حفرة تمتد من المستوى الأول حتى مستوى 333) مع وجبة متبقية من "سجناء" المستويات العليا. شخصان في كل مستوى أي 666 شخصاً في السجن العمودي. إذا صعدت فأنت على قيد الحياة، إذا كنت في الجزء السفلي حيث بالكاد يصل الطعام، فلا يمكنك الوثوق بأي شخص. والقانون السائد هنا أن السجناء يُنقلون إلى مستويات جديدة كل شهر. لذا يمكنك أن تكون سعيدًا نسبيًا يوم في 48 ثم في 133 في اليوم التالي. وإذا كنت تتساءل كيف يعيش هؤلاء الأشخاص عندما يكونون في الطوابق السفلية، فقد لا تكون مستعدًا للمستوى المروع الذي يذهب إليه هذا الفيلم.

جل ما نشاهده في الفيلم الإسباني عبارة عن مشاهد سوريالية، تعكس ما يمر به العالم اليوم من صراع طبقي وانحلال في القيم الإنسانية. "الجوع يجلب الجنون في هذه الحالات إما تأكل او تؤكل" يقول العجوز تريماغاسي لغورينغ، وهو يشرح له سبب اضطراره لتناول لحم جسده، ثم بتدخل الفتاة الآسيوية تنقلب المعادلة بقتل تريماغاسي وتحول غورينغ الشاب المثقف إلى آخر لحوم بشر. داخل السجن العمودي الذي يعكس ما تعيشه شعوب العالم الفقيرة في ظل النظام الرأسمالي، ابناء الطبقات العليا يستهلكون ولا يكلفون أنفسهم مشاركة شيء مع من هم دونهم تاركينهم للقتال وقتل بعضهم البعض من أجل البقاء. أما التنقل الشهري بين الطبقات فقد يرمز لما توهمنا به الرأسمالية في اننا جميعا بمقدورنا أن نصل إلى درجات أعلى، بينما هذا الترف المؤقت في أغلب الأحيان لا يدوم طويلاً وقد يوقع من لا يفقه اللعبة في الهاوية. كما شاهدنا كيف أودت النزعة الاستهلاكية التي تكرسها الرأسمالية بتريماغاسي بعدما اشترى السكين الذي لم يكن بحاجته يوماً، العجوز الذي أودى بحياة المهاجر الغير شرعي بعدما رمى بتلفازه من الشرفة وحمّله مسؤولية موته فقط لأن لاجئ، النظام العنصري!

 
ربما يستحضر الفيلم المأخوذ عن نص مسرحي للكاتبين ديفيد ديسولا وبيدرو ريفيرو - اللذين يظهران في أحد مشاهد الفيلم كمسجونين في حوض استحمام- نظرية كارل ماركس، حيث نظر إلى ظاهرة الجريمة والانحراف في المجتمعات الرأسمالية عموماً على أنها إفراز من إفرازات الصراع الطبقي بين ملاك وسائل الإنتاج "الطبقة البرجوازية" وبين الطبقة العاملة "طبقة البروليتارية". فاعتبر أن الجريمة ذات علاقة بالفقر سواء كان مطلقاً أو نسبيا. قد يكون نقد  النظام الرأسمالي سيطر على الفيلم، لكننا كأفراد لم نسلم من النقد ايضاً. فلا نستطيع انتظار الحكومات أو الشركات الكبرى لإحداث التغيير. وبالطبع على الرؤساء أن يتحملوا المسؤولية، لكن إذا استخدمناها كذريعة لعدم القيام بأي شيء بأنفسنا، فلن يتغير شيء في النهاية. الأمر يتعلق بما ستفعله انت لو كنت في أي مستوى، تريماغاسي مثلاً يستمر بلوم من في الطبقات الأعلى منه إلى أنه يتصرف مثلهم عندما يكون في الأعلى ايضاً وربما اسوأ.

تحتوي المنصة على الطعام المفضل لكل واحد منهم، ولو اكتفت كل طبقة بحصتها لكان الطعام سيصل الى الذين في بالأسفل... تماماً كما يحدث اليوم، فيما تجد كميات مهولة من الطعام طريقها إلى مكب النفايات من قبل حتى أن تستخدم، يتضاعف عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد في العالم.

"احذر وانت تحارب الوحوش أن تصبح وحشاً مثلهم" يقول نيتشه. غورينغ الذي امتعض من تصرفات تريماغاسي رويداً رويداً صار يشبهه وتقمص شخصيته وصار يستخدم مفرداته، حتى أنه أكل لحمه بعدما كان يحمله مسؤولية موته في حال حدوثه. كان تحول شخصية غورينغ لافتاً، في لحظة تحوله من انسان مسالم دخل المنصة مع كتاب إلى آكل لحوم بشرية، ثم الى قاتل، لكن الثابت في شخصيته كان اندفاعه لتحقيق العدالة رغم أنه غيّر من أساليبه، ففي البداية أراد الحوار مع من في الأعلى والأسفل لتقاسم الطعام، ثم لاحقاً قرر غورينغ شن الحرب على الوحشية التي يراها لتغيير النظام الظالم والقاسي بمشاركة زميله المتدين بهارات، تمامًا كما يفعل دون كيشوت في الرواية التي يقرأها، حارب طواحين الهواء لتحقيق العدل. ليس هناك انسان مثالي في هذا النظام جميعهم يخضعون في مرحلة ما عندما يشعرون بخطر الوجود.

قد تشعر بالاشمئزاز وأنت تشاهد إنساناً يأكل لحم إنسان آخر، وربما أول صفة تسقطها عليه هي "الوحش". لكن إن بحثنا أكثر سنجد أن اللغة هنا فقيرة، فحين نضطر لاستخدام مرادفات "الوحشية" فإننا نتواطأ مع جنسنا البشري لكي نظلم الوحوش، فقد دلت الأبحاث والتجارب أن ما نصفه بالوحشية هو سلوك خاص بالإنسان أكثر، والوحشية البشرية تكاد تكون أخطر من تلك المتمثلة بالحيوان الذي يقتل ليعيش، أما ما شاهدناه فسيكون أخف وطأةً إذا بحثنا في تاريخ الإنسان الإجرامي منذ وجوده، يومياً نسمع عن آلاف جرائم القتل التي تقع حول العالم، لم يكن أي منهم بحاجة لتناول جثة ضحيته، غالباً ما يكون الهدف انتقامي، اقتصادي، إيديولوجي...

الإنسان يخفي وحشيته خلف غرائزه، يمكنه التواجد في أي درجة من سلم التحضر والأخلاق، كما يمكنه الانحدار بسرعة إلى أدنى درجات القسوة والتوحش وهمجية الأخلاق. قد قال ذات يوم أحد زعماء القبائل الكانيبالية المعزولة كلياً عن العالم (آكلي لحوم البشر) عندما التقى بأحد الرحّالة الأوروبيين وحدّثه الأخير عن مقتل الف رجل في يوم واحد أثناء الحرب العراقية الإيرانية "إنني لا أستغرب من موضوع قتل هذا العدد الكبير؛ ما أتعجب منه هو كيف تأكلون كل هذا العدد الكبير من الناس في يوم واحد؟"، فضحك الرحالة وقال: "كلا، إننا لا نأكل كل هذا العدد من الناس؛ إننا لا نأكلهم، بل نتركهم بعد قتلهم"، فازداد الزعيم تعجباً: "هذه منتهى الحماقة! لماذا تقتلونهم إذا لم تكن عندكم حاجة لأكلهم"!

قد يكون التفسير وراء إطعام الطفلة الباناكوتا - التي ظن بهارات وغوريتغ انها الرسالة- على أنه التجريد من الأهمية المرتبطة برأس المال. فيتم ارسال الطفلة الى الأعلى بمثابة "رسالة" حقيقية للإدارة. الطفلة التي وجداها  في أسفل المستويات، كان جلياً أنها ابنة المرأة الآسيوية التي ظن الجميع أنها مجنونة تدعي أن طفلتها ضائعة في المنصة، بينما كانت تصر في كل مرة على الوصول إلى قاع الحفرة ليس للعثور على ابنتها، بل فقط للتأكد من أنها يمكن أن تصل من خلال النظام دون أن تصاب بأذى، كانت تحمي ذريتها وتحافظ على صحتها في الظروف الصعبة. ربما الابنة هي استعارة للمرونة الإنسانية حتى في أحلك الأوقات وأصعبها، كما قد تدعم فكرة أن التغيير الحقيقي فقط يمكن أن يأتي من براءة الشباب، الجيل القادم من الحفرة (المجتمع في هذه المرحلة).
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها