الأحد 2020/06/07

آخر تحديث: 11:17 (بيروت)

أميركا ونحن.. في التضامن وغيابه

الأحد 2020/06/07
أميركا ونحن.. في التضامن وغيابه
انتهت مسيرة اللاعب كولين كايبرنيك بعد احتجاجه على عنف الشرطة الأميركية. (غيتي)
increase حجم الخط decrease

في الولايات المتحدة الأميركية، لا يتساوى الجميع، حتى في الفحص الروتيني الذي تقوم به الشرطة عندما توقف شخصاً في الشارع لتفتيشه. خطر أن لا ينجو الشخص الأسود في مثل هذا الموقف أعلى بكثير من مثيله الأميركي الأبيض. منذ حادثة الاعتقال الوحشي للمواطن الأميركي الأسود رودني كينغ في عام 1992، انطبع هذا التصوّر في الأذهان، وأخذت الصورة دورتها في أنحاء العالم. وفي عصر وسائل التواصل الاجتماعي، ينتهي الحال أحياناً بتلك الصور مذاعة مباشرة على فايسبوك، كما في واقعة مقتل فيلاندو كاستيل في العام 2016.


عادة ما يُتخذ القرار المميت بإطلاق النار في جزء من الثانية، ولهذا السبب تمّت تبرئة الغالبية العظمى من ضباط الشرطة المدانين بالقتل في نهاية المطاف. الرواية الرسمية تفيد دائماً أن الضابط يخشى على حياته، وإطلاقه النار هو دفاع مشروع عن النفس. من بين 15000 ضحية لرصاص الشرطة منذ عام 2005، صدرت إدانات بحق الشرطيين في 150 حالة فقط. حالة جورج فلويد مختلفة. فيديو مقتله، الذي انتشر في مواقع التواصل الاجتماعي طوال الأيام القليلة الماضية، مدته 8 دقائق و46 ثانية، ولا يصحّ وصفه إلا بكونه عملية إعدام. في تلك المدة، ركع الضابط ديريك تشوفين على ضحيته المقيّدة، بينما يحاول فلويد (46 عاماً) أن يشرح للشرطي أنه لا يستطيع التنفس، وفي لحظة ما ينادي بيأسٍ والدته.

منذ وفاة إريك غارنر في عام 2014، أصبحت عبارة "لا أستطيع التنفس" رمزاً لعنف الشرطة في الولايات المتحدة الأميركية والواقع اليومي للأميركيين من أصل أفريقي. يظلّ الشرطي ضاغطاً بركبته على رقبة ضحيته المسجاة على الأسفلت، إلى أن يتوقف الأخير عن الحركة إلى الأبد. ركبة شرطي في عنق رجل عاجز، تأتيه من الجوار صرخة يائسة يطلقها أحد الشهود "هذا إنسان". مشهد يختصر مأساة أميركية معاصرة. الصور القادمة من أميركا هذه الأيام تكشف عن وجه عنيف وغاشم لشرطة هائجة وحشية، يشبه كثيراً وجوه عنف عربي يلازمنا ويعلن عن نفسه بوتيرة يومية تقريباً. وفي وقت تزداد ضراوة أنظمة المنطقة أمام مطالب شعوبها اللاهجة بالتغيير المؤجل، وتغيب معه أي فسحة أمل لكسر حلقة الإذلال والاستبداد المستحكمين في الحالة العربية؛ تتعلّق عيون البعض بالصور القادمة من بعيد أملاً في حمل بعض الهواء الجديد.

في الوقت نفسه، ركع الآلاف من الأميركيين على ركبهم أمام رجال الشرطة المسلحين في تحية أخيرة لجورج فلويد. لو لم تكن هذه هي أميركا دونالد ترامب، لإعتقد المرء أنه في الفيلم الخطأ. فجأة، أصبحت لفتة بسيطة تبجيلية، سلاحاً ورمزاً احتجاجياً، يصف شعور الكثيرين من الناس في هذا البلد الممزَّق: شعورهم كما لو أنهم في قبضة مميتة لرجلٍ بلا فضيلة واحدة تستره في قادم الزمان من الرزوح عميقاً في مزبلة التاريخ. في بعض الولايات، حُظر منذ زمنٍ إجراء تقييد وضبط المشتبه بهم عن طريق الركبة، مثلما قضى جورج فلويد، لما يشكّله من مخاطر صحية على المعتقلين.

من الملعب إلى الشارع

أصبح الركوع على الركبة مسألة سياسية في أميركا ترامب، منذ قرر نجم كرة القدم كولين كايبرنيك، الجثو على ركبته خلال النشيد الوطني في عام 2016، احتجاجاً على عنف الشرطة ضد الاميركيين من أصل أفريقي. رفض كايبرنيك احترام بلدٍ يقبل وفاة عدد لا يحصى من الأبرياء، سائراً بذلك على خطى محمد علي كلاي، الذي رفض قبل خمسين سنة تأدية الخدمة العسكرية لنفس السبب، وخسر لقبه في بطولة العالم في المقابل. أعلن كايبرنيك حينها إنه لا يمكنه الافتخار بعلم دولة تضطهد السود وذوي البشرة الملّونة، في وقت هناك أناس يموتون في الشوارع وآخرون يَقتلون ويفرّون من العقاب. إلا أن لفتة الاحتجاج هذه التي قام بها منذ أربعة أعوام، كانت كافية لإنهاء حياته المهنية. لم يجدّد فريقه عقده، وامتنعت كافة فرق اتحاد كرة القدم الأميركية عن طلب خدماته أو العمل معه. لا يزال محروماً من اللعب حتى اليوم*، وأدرجت الرابطة الوطنية لكرة القدم (NFL) حظر الركوع في لوائحها، مثلما طالب الرئيس الحالي في تغريدة غاضبة.

رغم ذلك، عبّر العديد من الرياضيين الأميركيين عن دعمهم لزميلهم، وأعادوا القيام بحركته في الركوع على ركبة واحدة في بداية المباريات. في الجانب الآخر، لم يتوان الجمهوريون والمحافظون في التنديد بما فعله كايبرنيك من "إهانة لا تحتمل للنشيد الوطني والعلم والشعب الأميركي" معتبرين أن كايبرنيك "خائن للأمة". حتى دونالد ترامب نفسه دخل على الخطّ وشتم الرياضيين الداعمين له، في مؤتمر تلفزيوني رسمي، في تصريح صادم لكنه ليس غريباً عليه، قال فيه "عندما لا يحترم أحدهم عَلَمَنا، قولوا له "اخرج يا ابن العاهرة من هذا الميدان حالاً. أنت مطرود"، وسط صيحات استحسان الحضور.

والحال كذلك، يمكن النظر إلى تعليق الرئيس الأميركي باعتباره ترسيم حدود للمواطن الأميركي الأسود، يلزمه بالانسحاق في صمت والكفّ عن الشكوى، طالما أنه لم تعجبه إيماءة صامتة بسيطة كالركوع على الركبة. غير أن دعوات الرئيس البرتقالي وأنصاره من العنصريين ومهووسي النقاء الأميركي، لا يمكنها فعل شيء أمام مسار نمو واستمرارية الإيماءة الاحتجاجية المغضوب عليها. إذ تحوّل الركوع على الأرض بركبة واحدة لاحقاً إلى إيماء للعصيان المدني، وبدأت باعتماده حركة "بلاك لايفز ماتر" خلال المظاهرات الأخيرة، ليس في الولايات المتحدة وحدها، بل في جميع أنحاء العالم، بعد مقتل جورج فلويد على يد الشرطة الأميركية.

أيقونة ثقافية

ركوع كايبرنيك صار أيقونة ثقافية، مثل قبضة النمر الأسود التي قام بها الرياضيان الأميركيان من أصل أفريقي، تومي سميث وجون كارلوس في دورة الألعاب الأولمبية العام 1968. لماذا؟ لأن أميركا لم تتصالح مع ماضيها القذر، ولم تتخلّص بعد من عنصريتها البنيوية، ولأن السنوات الأخيرة شهدت العديد من المناسبات التي استوجبت الركوع على ركبة واحدة.

جورج فلويد ليست سوى الحالة الأشهر في سلسلة انتهاكات وعنف الشرطة الأميركية في الماضي القريب. في مارس/ آذار الماضي، قُتلت الممرضة برونا تايلور (في ولاية كنتاكي)، في شقتها، على أيدي رجال شرطة يرتدون ملابس مدنية لأنهم حصلوا على عنوان خاطئ. قبلها، في فبراير/شباط، أطلقت الشرطة النار على أحمد أربيري (في ولاية جورجيا) أثناء تريّضه. نُشر فيديو الجريمة في أوائل مايو/أيار، في ذروة جائحة كورونا. أزمة كورونا كانت سبباً في اجتياح الاحتجاجات مدن الولايات المتحدة بمثل هذا العنف الشديد لمدة أسبوع (قابل للزيادة)، بشكل أكثر خطورة مما كانت عليه في 2014 مع احتجاجات فيرغسون، إذ يشكّل الأميركيون الأفارقة نسبة كبيرة من ضحايا الوباء في الولايات المتحدة (تُقدّر نسبة وفيات السود بثلاثة أضعاف نظرائهم البيض)، فضلاً عن تأثرهم الشديد بازدياد معدلات البطالة بين صفوفهم نتيجة الركود الاقتصادي بفعل الجائحة.

حقيقة أن الركوع على ركبة واحدة أصبح، في الوقت الحالي، رمزاً احتجاجياً يوحّد المطالبين بالعدالة ووقف التمييز العنصري ضد الأميركيين السود - في حين أن رئيس "القانون والنظام"، على "تويتر"، دعا المحافظين إلى نشر الحرس الوطني - ربما تكون علامة، بعد أيام من الاضطرابات الداخلية، على أن أميركا لم تنقسم على نفسها بعد مثلما يودّ ترامب.

كتبت "نيويورك تايمز" أن عدد المتظاهرين البيض يتجاوز الآن عدد المشاركين من الأميركيين الأفارقة. من ميامي، فيلادلفيا، نيويورك، شيكاغو، بالتيمور، أوكلاند، وعشرات المدن الأخرى، تصل إلينا صور ضباط الشرطة وهم يركعون مع المتظاهرين. صور لا يمكن تخيّل رؤيتها في نطاقنا العربي، بعدما نجحت الأنظمة المديدة والممتدة في تأليب شعوبها على بعضهم البعض وتفتيت مكونات المجتمع، بحيث تغدو الطبقات الأكثر قرباً واستفادة من امتيازات الرضى ومباركة حالة "حكم الأمر الواقع" كلاب هجوم وجدار حماية وكتلة ترجيح في الاستحقاقات السياسية ولحظات الفوران الاجتماعي، بما يخدم في النهاية، إدامة الأحوال على طبيعتها المعتلّة.

اعتراف بالذنب

عندما ركع المستشار الألماني ويلي براندت أمام النصب التذكاري لأبطال غيتو وارسو في 7 ديسمبر 1970، كانت العلاقة بين ألمانيا وبولندا باردة، وفكرة براندت عن أوروبا مشتركة لا تزال مجرد يوتوبيا بعيدة المنال. لكن الصورة بعثت بإشارة في اتجاه أوروبا الشرقية. بعد أكثر من عشرين عاماً على الحرب، كانت ألمانيا مستعدة للاعتراف بذنبها في قتل تسعة ملايين مواطن يهودي. في مصر، مثلاً، إلى الآن، بعد تسع سنوات على ثورة 25 يناير، لا تظهر أي إشارة من نخبة السلطة الحاكمة تفيد باختلافها عن سابقتها، أو قيامها في أي مرحلة لاحقة من تاريخ سيطرتها بالاعتراف بأخطائها أو الإقرار بذنبها، بل هي على العكس من ذلك تماماً تمعن في فُجورها وسعيها الدؤوب واللاهث لتوسيع دائرة المظالم والاختلالات.

يكتب تا-نيهيسي كواتس، في كتابه "بيني وبين العالم"، أن "مبدأ التفوق الأبيض منحوت في الهوية الأميركية منذ 400 عاماً". لكن عندما يتبنّى رجال الشرطة في جميع أنحاء أميركا الآن موقف الركوع، برمزيته الموجّهة ضد مشكلة هيكلية داخل جهاز الشرطة، فإن هذه لفتة لا ينبغي الاستهانة بها. تقول أنا أراك وأشعر بألمك. هذا مفقود تماماً في الحالة العربية، وربما لن نعثر عليه أبداً، مع الإقرار باختلاف السياق والإرث التاريخي لكل حالة، لكن تبقى المقارنة واردة في حالة إظهار التضامن مع أفراد الشعب الغاضبين المطالبين بحقوق بديهية وعادلة.

منذ احتجاجات فيرغسون، استبدلت حركة "بلاك لايفز ماتر" شعارها القياسي المقتبس من اسمها بآخر شامل "بلو لايفز ماتر" (يعنى بكل الأميركيين الملونين وليس السود وحدهم). الحدّ من امتيازات الأميركيين البيض لم يكن من شأنه القضاء على الوباء الذي أودي بحياة أكثر من 111 ألف أميركي حتى الآن، لكن بدون الغزو الفادح للوباء ربما لما اتضحت الاختلالات الهيكيلية في المجتمع الأميركي كما هو حادث الآن. لا يُنظر إلى الشرطة كأصدقاء أو كأفراد ودودين في المجتمعات الأميركية الأفريقية، ولا يختلف الحال في الديكتاتوريات العربية المستقوية بأذرعها الأمنية لضبط وإحكام السيطرة على أفراد ومجموعات تحتل مواضع مختلفة في الهرم الاجتماعي. لكن صورة قائد شرطة نيويورك تيرينس موناهان وهو راكع على ركبته أمام المتظاهرين، تقول شيئاً عن بقية باقية من الثقة المفترضة بالشرطة والعلاقة الآمنة والسليمة بين الدولة والمجتمع.

ليس هناك ما يبعث على الراحة في موت شخص بريء، مصرياً كان أم لبنانياً أم أميركياً. لكن القتل في بلادنا مجاني ووفير ويومي، بصورة تولّد البلادة على الأرجح. في أميركا، ربما بعد مقتل جورج فلويد، يٌعاد اكتشاف الركوع كإيماءة توحيد واتحاد، لا انقسام وتقسيم، فيما يظلّ انتظار ظهور إيماءة مثيلة، عربياً، عصياً إلى حين.

(*) اعترفت الرابطة الوطنية لكرة القدم (NFL)، على لسان مفوضها روجر جودل، بخطئها في حق كايبرنيك، وأصدر جودل فيديو مصوّرا أدان فيه العنصرية والقمع المنهجي للسود  واعتذر عن "عدم الاستماع إلى لاعبي اتحاد كرة القدم الأميركي في وقت سابق" عندما حاولوا معالجة الظلم العنصري، وطلب منهم "ألا يخافوا من الاحتجاج والتعبير عن أنفسهم في المستقبل".

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها