السبت 2020/06/06

آخر تحديث: 12:51 (بيروت)

"اللعبة": جدية السرد المنحط

السبت 2020/06/06
"اللعبة": جدية السرد المنحط
هشام ماجد وشيكو في "اللعبة"
increase حجم الخط decrease
في مطلع الألفية، كان تداول الأفلام على "الهارد ديسك"، من يد ليد، قد أصبح أمراً شائعاً. فإقتناء الكومبيوتر لم يعد رفاهية، وسعته التخزينية كانت تتضاعف بوتيرة مذهلة. من دون وعي محدد، شعر الجميع بأن هناك شيئاً يفلت أو على وشك الإفلات. في العام 2002، ظهر فيلم "رجال لا تعرف المستحيل"، للثلاثي غير المعروف حينها، أحمد فهمي وهشام ماجد وشيكو. لم يكن للفيلم القصير الذي أنتج بكاميرا فيديو منزلية أن يجد طريقه للجمهور لولا التقنية الجديدة، السهلة والمتوافرة والمجانية. ورغم الصورة المشوشة والصوت شديد الرداءة، لقي الفيلم نجاحاً معتبراً، وكانت الطريقة التي وظف بها صنّاع الفيلم قالب "الباروديا" نقطة تحول سيكون لها تأثير واسع لاحقاً.

بالطبع، كان للباروديا تاريخ طويل في الكوميديا المصرية، ولفؤاد المهندس الباع الأكبر فيها وبشكل منهجي، عبر سلسلة من الأفلام اعتمدت على المحاكاة الساخرة لأعمال فنية أخرى، سواء كانت مصرية أو أميركية، وكان "فيفا زلاطا" الذي قدم محاكاة ساخرة لفيلم "فيفا زاباتا" وأفلام الغرب الأميركي هو أكثرها تطوراً. لكن فيلم "رجال لا تعرف المستحيل" كانت محاكاة من نوع آخر، أكثر خطورة. 

فخلافاً لمغامرات فؤاد المهندس الآمنة، التي اختتمها بأغنية "مصر هي أمي" في "فيفا زلاطا"، فـ"رجال لا تعرف المستحيل" كان محاكاة ساخرة لمجمل تراث دراما المخابرات المصرية: فيلم "الطريق إلى إيلات"، ومسلسلات مثل "دموع في عيون وقحة" و"رأفت الهجان"(تلك الدراما التي تم تعميمها حالياً على مجمل الأعمال التلفزيونية المصرية). كانت السخرية مزدوجة، وعلى مستويين. طعن في المبالغات الفنية في تلك الأعمال، والأخطر سخرية مما تحيل إليه في الواقع. تذهب القصة الرائجة أنه الثلاثي اعتُقل بسبب الفيلم، وإن كان لا يمكننا التأكد من حقيقة تلك الرواية، فلا يمكن استبعادها.

فالباردويا، كما يعيدها ميخائيل باختين إلى أصلها اللغوي، هي الغناء على هامش الجوقة أو معها، لكن بصوت مختلف، حيث يتداخل نصّان أو أكثر، أحدهما واضح والآخر في الخلفية. لا تتيح المحاكاة الساخرة الاعتراف بتعدد الأصوات والسرديات فحسب، بل وتزعزع المقدس والمكرس والمبجل، عبر سردها "المنحطّ". فالركاكة التي تميز المحاكاة الساخرة، ركاكة متعمدة ومكشوفة، لا تشير إلى نفسها، بل إلى النص الأصلي، في سعي إلى فضح ركاكته المخفية، إزاحته وإتاحة المجال لغيره. 
تحول الثلاثي إلى العالم الاحترافي، في سلسلة من الأعمال تفاوتت نجاحاتها، وكان بعضها قد اعتمد الاقتباس من أفلام أميركية، لكنها ظلت معتمدة على "الباروديا" التي تحيل إلى الفن والتاريخ المحليين، بالإضافة إلى تأثيرات من الثقافة المعولمة. في عملهم الأنجح، مسلسل "الرجل العناب" (2013) والذي يحاكي أفلام الرجال الخارقين الأميركية، يقدم الثلاثي سخرية لاذعة وبشكل رمزي من الثورة المصرية ومآلاتها، بحس نصف نبوئي، وبصيغهم "الركيكة" المعتادة. وفي فيلم "الحرب العالمية الثالثة" (2014) والذي تدور أحداثه في متحف تدب الحياة في تماثيله الشمعية، يتجاوز الثلاثي حدود سخرية أعمالهم السابقة، ليكون الهدف هو مجمل الرواية الرسمية للتاريخ المصري.. وأي موقع يمكن أن يكون مناسباً لهذا أكثر من متحف! 

ومؤخراً، عاد هشام ماجد وشيكو وحدهما (بحضور شرفي لأحمد فهمي) في مسلسل "اللعبة" الذي عرض في بداية العام، وأعيد بثه في رمضان. تظل الباروديا حاضرة في المسلسل، لكن بوصفها واحدة من الأدوات، لا كل شيء، فيما يظل عنصر الركاكة هو الجانب الأكثر حضوراً منها، ركاكة سمحت للعمل بتناول موضوعات لا ينقصها العمق ولا المخاطرة. يبدو مسلسل "اللعبة" محاكاة ساخرة لفيلم أميركي بالاسم نفسه من إنتاج العام 1997، حيث يتورط البطل في لعبة تديرها جهة مستترة، قبل أن تشرع في تدمير حياته. لكن المسلسل يطور تلك الحبكة إلى تيمات أكثر آنية، فاللعبة هنا لا تستهدف فرداً، بل شخصين تحركهما الرغبة المحمومة في التفوق، المنافسة وجمع النقاط وتحقيق المكانة. "وسيم" مدير الفندق، الملتزم اجتماعياً والناجح مهنياً وفي حياته الزوجية بشكل مبالغ فيه، في مقابل "مازو" صورته المعكوسة، المدرس المستهتر والناقم والكلبي. كلاهما على اختلاف مواقعهما من منظومة المجتمع، يشتركان في هذا الهوس بالمنافسة والتغلب على الآخر من أجل إثبات الذات.

يرجع بنا المسلسل إلى طفولة البطلين ليخبرنا بأن هناك شيئاً غريزياً في تلك المنافسة، لكن اللعبة أيضاً مهندسة بالكامل، مفروضة علينا من أعلى، كل تحركات البطَلين مرصودة ويتم التصنت عليها من قبل "اللعبة"، الجهة المجهولة وممثلها الذي يتصل بهما دورياً ليضعهما أمام تحديات جديدة. يقدم اللعبة صورة كاريكاتورية للحياة الحديثة في صورتها المرقمنة، والمتمحورة حول الهاتف النقال، حيث تتحول المعايشة اليومية إلى سلسلة من التحديات والمنافسات ومهام جمع النقاط الافتراضية.

توجه "اللعبة"، وسيم ومازو، إلى طيف واسع من المهام، من فقد وزن محدد في فترة زمنية قصيرة، أو جمع عدد معين من الأفراد في حيز واحد، إلى الخيانات الزوجية أو تدمير زواج الطرف الآخر. وفي سبيل الانتصار يبدو الجميع مستعداً للتضحية بكل شيء، بالأسرة والكرامة الشخصية والعمل والعلاقات العاطفية. تسخر "اللعبة" من عالم أصبح كل شيء فيه موضوعاً للتقييم الكمّي وللتسابق، وكل فرد رهينة للعبة يتورط فيها بإرادته لجمع النقاط فيما يخدم جهة مستترة. يزخر المسلسل بتيمات أخرى ذكية والتي يتمتع بعضها بكثير من الجرأة. فخلافاً لمسلسلات الشؤون المعنوية التي هيمنت على الشاشة في رمضان هذا العام، يظل "اللعبة" قادراً على السخرية من جهاز الشرطة، ممثلاً في رجل الشرطة المتقاعد الذي يعمل مديراً فاشلاً للأمن بالفندق، والذي سيلتحق سريعاً باللعبة. 

تضيق مساحة الحرية التي يمكن للكوميديا المصرية أن تتحرك فيها، يوماً بعد يوم، لكن تلك الباروديا الركيكة في الظاهر وشديدة الجدية في العمق، والتي جلبها ثلاثي "رجال لا تعرف المستحيل" إلى الشاشة قبل عقدين، إن لم تعد قادرة على النقد السياسي المباشر كما في الماضي، فهي لا تزال قادرة على القيام ببعض منه، بشكل متوارٍ وأكثر تعميماً، وكالعادة القيام بإضحكانا. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها