الخميس 2020/06/04

آخر تحديث: 14:15 (بيروت)

دنى غالي.. جامعة الحرب العراقية الإيرانية

الخميس 2020/06/04
دنى غالي.. جامعة الحرب العراقية الإيرانية
increase حجم الخط decrease
1
بربكِ كيف لطالبة في كلية الزراعة أن تسير بكعب حذاء طوله 8 سم بالطريق إلى مختبرات التربة! يقول لي زميلي الوسيم في قسم البستنة وهو يشير إلى حذائي. كنتُ سأنشر صورتنا معا لو أَذِنَ لي وأنا لم أسأله ذلك. ألمسُ بسبب السنوات والمسافات عموماً، تحفُّظاً لدى ناسنا على جوانب أعدُّها أكثر من عادية وطبيعية. ولا نكتفي بهذا، بل هنا نجد قناعات تدافع بقوة عن تغيّرها.

كنا نجتمع متخلّفين كعادتنا عن الحضور إلى قاعة المحاضرات، أنا بسبب ملاحقة "أبو الثقافة القومية"، وزميلي لنومة عميقةٍ غلبَتْه، وصديقتي المسيحية التي غالباً ما تختلط الذكرى لدي بشأن سبب غيابها عن الدرس، فأظن ان دينها يمنعها من حضور درس الثقافة القومية، لا إعلان تضامنها معي ربما. ولمن غابَ عن باله، فنحن مجتمع لا يتوقف عند قضايا يعدّها بين قوسين تفاصيل صغيرة، أي لا أهمية لها، وفي أحسن الأحوال ليس من المهم الآن مناقشتها، واحدة منها إبعاد الطلاب وهُم أطفال مِنَ الصفّ في حصّة الدين إن لم يكونوا مسلمين! وهم مواطنون عراقيون أبّاً عن جَدّ! وفي الدين قيل المسامحة! على العموم درس الثقافة القومية لا علاقة له بالدين، ولكنها جذور الخوف البعيد الضاربة فيّ، امتدّت من الابتدائية إلى الجامعة.

وشيء نبيل، انساني، حضاري أن يتعاطف الناس في بلداننا مع انتفاضة السمر (الأفروأميركيين) من ضمن احتجاجات لا تقتصر على السياسة العنصرية الوحشية التي تمارس ضدهم في أميركا، ولكن هل تعي الناس ما تنطوي عليه ثقافتنا من عنصرية! مثال بسيط جدا هو هل تتزوج المرأة البيضاء من رجل أسود في البصرة بقبول ومباركة من قبل الأهل والمجتمع؟

2
مرحلة الدراسة الجامعية التي عشناها خلال فترة الحرب العراقية الإيرانية تظل مرحلة شديدة الغرابة. قد لا يشترك معي كثيرون في هذا، لكن ذاكرتي تأبى إلا أن تختصرها ببضع صور تشبه لطخات سود على قماشة لافتة عريضة، عَشْعَشَ فيها الأمن البعثي والمخابرات في كل مكان داخل الحرم الجامعي، ابتداء من البوابة إلى غرفة الاتحاد الوطني، مروراً ببعض المتخرجين المُعيدين من كتبة التقارير "المجيّشين شعبياً"، الذين وللغرابة لازلت أذكر وجوههم وأسماء بعضهم، وصولاً إلى غرفة الطالبات (غرفة استراحة خاصة بالبنات). لم تتوقف الملاحقة الرعنة وملء الاستمارات التافهة والاستدعاءات الترهيبية والمضايقة والاستجوابات طيلة الدراسة – في أول استجواب لي حال دخولي الجامعة وبمثالية ذاك العمر وسذاجة أول التجربة أجبتُ بتلقائية إن اختلاف المبدأ والرأي لا يشكّل تهديدا! مثار ضحك الآن، طلعتُ من الغرفة خلف كلية العلوم سالمة، ولكن وكأن القصبة الخضراء النحيلة التي هي أنا كانت مصدر تهديد خطير لأمن الدولة!

أفكر ان سبب كل الموقف هو الكتب، ولكن كم كان يبدو كل شيء قاتماً لولاها!
لا شك كانت هناك سعادات صغيرة وذكريات جميلة على هامش تلك السنوات، ولكن عنفوان الشباب الجميل كان قد ضاع وإلى الأبد في أغلبه، أرداهُ عنف السلطة وبسببه لم يمتلك العمر الفتي لا الطموح، ولا الجرأة، حتى على المسايرة والمواساة، أو تبادل الشكوى في ما بينهم، طلاّبا وطالبات. كان تواصلنا، مثل حضورنا، مثل أداؤنا شابات وشباب ساذجا، على السطح، لا يتناسب مع أعمارنا. كأن السلطة هي من تولّى أمر سحقنا. صمتٌ منقطع، مشكوكٌ به ذات الوقت، جبان لا يمكن استيعاب بلاهته، ما يحيل تفكيري إلى ضرورة انتاج رواية صامتة، نستلذّ خلالها بصمت الروي.

الصورة خفيفة الدم هذه تحية للزملاء بمن فيهم من غاب عنّا.

(*) مدونة نشرتها الروائية والشاعرة العراقية دنى غالي في صفحتها الفايسبوكية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها