الثلاثاء 2020/06/30

آخر تحديث: 12:17 (بيروت)

بيزنطة عند الشريط الحدودي

الثلاثاء 2020/06/30
increase حجم الخط decrease
أعلنت مديرية الآثار الإسرائيلية مؤخراً، اكتشاف أرضية من الفسيفساء تعود إلى الحقبة البيزنطية نواحي بلدة شلومي المتاخمة للحدود اللبنانية، وأظهرت دراسة الموقع ان هذه الفسيفساء كانت تزين داراً تعرّضت للخراب في زمن دخول الفرس إلى فلسطين في العقود الأولى من القرن السابع.

عند ظهور هذه الأرضية، ظنّ المنقّبون انها تعود إلى كنيسة أو إلى دير، ومع مسح الموقع ودراسة اللقى التي عُثر عليها فيه، تبيّن أنها دار مدنية من دور بلدة بيزنطية عُرفت باسم ميتسوبا. خربت هذه البلدة، غير انها اسمها بقي حياً كما يبدو، إذ تحوّل إلى خربة معصوبة، كما تشير الدراسات الفلسطينية. وفي هذه الخربة، أنشأ الصهاينة مستعمرة باسم كيبوتس متسوبه، وعلى مقربة من هذا الكيبوتس عُثر على هذه الأرضية بالصدفة اثناء العمل على شق طريق يربط بين بلدة شلومي وكيبوتز آخر، وهو كيبوتز حانيتا الذي أقيم في خربة صبح العام 1938، ويقع هذا الطريق في أقاصي الجليل الغربي، عند الشريط الحدودي الذي يفصل بين دولة لبنان والكيان الصهيوني.

تحتل الأرضية الفسيفسائية مساحة مربّعة طولها خمسة أمتار وعرضها كذلك خمسة أمتار، وتتبنى زينة تقليدية راجت في تلك الحقبة، كما تشهد الكثير من الأرضيات التي تزخر بها بلاد الشام بأقاليمها المتعددة. قضى الزمن على جزء كبير من هذه اللوحة، غير أن معالمها ظلّت واضحة. يتمّيز التأليف ببساطته، ويتألف من مساحة واسعة يحوط بها شريط نباتي يحوي مجموعة من العناصر التصويرية. تتشكّل المساحة الوسطى من شبكة زخرفية قوامها نبتة زخرفية مزهرة تتكرّر أفقياً وعمودياً تبعاً لبناء تعادلي هندسي. وسط هذه الشبكة التجريدية، تظهر صبية تحمل وعاء على شكل قرن يفيض بالثمار، وذلك تبعاً لنموذج يعود إلى الميراث اليوناني يمثّل إلهة الحظ والنجاح والازدهار المعروفة باسم "تيكه"، وقد انتشر هذا النموذج في الحقبة الرومانية انتشاراً عظيماً، وظلّ هذا حياً في العالم البيزنطي حيث جُرّد من دلالاته الأولى وتحوّل إلى رمز للخصوبة والعطاء والثراء.

تحمل ربّة العطاء، قرن الوفرة، وتنتصب وحدها وسط هذه السجادة الزخرفية التي يغلب عليها الطابع التجريدي الصرف. حول هذه المساحة الزخرفية، يلتف شريط نباتي لولبي على شكل إطار تزييني. يحوي هذا الإطار مجموعة من العناصر التصويرية بقي منها من جهة وجه أنثوي يُعرف عادة كقناع، وفتى أمرد تحوط به بضعة أعرف يونانية تُصعب قراءتها من الجهة المواجهة. في المقابل، نقع في الجهة الثالثة على أرنب وخنزير بري يقضمان حبات من الثمار تتدلى من آنية إغريقية كبيرة ترتفع بينهما، ويظهر إلى جانب الأرنب شاب أمرد يماثل في هيئته الشاب الذي يظهر في الجهة الأخرى. تبقى الجهة الرابعة، ويصعب تحديد ملامحها بسبب ضياع الجزء الأكبر منها. إضافة إلى هذه العناصر، تحضر في الجهات الأربع مجموعة من الطيور الصغيرة تشارك في نقر حبات الثمار المتدلية من أغصان هذه الشريط النباتي الزخرفي.

لا تحمل هذه الأرضية كتابة تشير إلى تاريخها، غير أن اللقى التي عُثر عليها في الدار تشهد إلى الحقبة التي تعود إليها، ومنها طبق فضي كبير من نتاج القرن السادس وعملة من مطلع القرن السابع. كما هو معروف، احتدم الصراع بين الفرس والروم في الفترة الممتدة من العام 602 إلى 628، وكانت الغلبة للفرس أولاً، ثم للروم، كما تشير الآيات الأولى من سورة الروم: "الم. غُلبت الروم. في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون". وتفسيرها بحسب الطبري "أن قيصر بعث رجلاً يُدعى قطمة بجيش من الروم، وبعث كسرى شهربراز، فالتقيا بأذرعات وبصرى، وهي أدنى الشام إليكم، فلقيت فارس الروم، فغلبتهم فارس، ففرح بذلك كفار قريش، وكرهه الـمسلمون". في الخلاصة، دخل القائد الفارسي شهرباراز، أراضي فلسطين في ربيع 614، وعمد إلى إحراق كنائسها أينما سار، وألحق خراباً عظيماً بديارها، ومنها ديار الجليل الغربي التي خرجت منها هذه الأرضية الفسيفسائية في زمننا.

تقع هذه الدار كما أشرنا عند مشارف كيبوتس متسوبه الذي أنشئ فوق خربة معصوبة، وكانت هذه الخربة في الماضي القريب تابعة لقرية البصة، وهي قرية مشهورة بوسعها وكثرة مزارعها، تقع جنوب رأس الناقورة، عند أقدام جبل المشقح. من المفارقات، كانت البصة في العهد العثماني الأخير، تابعة لناحية تبنين في جبل عامل، وكان جبل عامل تابعاً للواء صفد. أُلحقت البصة بقضاء عكا أثناء الانتداب البريطاني على فلسطين، وكانت لها طريق فرعية تربطها بالطريق العام الساحلي بين عكا وبيروت. 

من نواحي هذه القرية العاملية التي ألحقت بفلسطين، خرجت هذه الفسيفساء ودخلت اليوم "متحف كيبوتس عين دور" في الجليل الأسفل، جنوب شرقي مدينة الناصرة. أنشئ هذا الكيبوتس فوق أنقاض قرية عين دور التي هدمت في نهاية 1949، وأقام أعضاؤه هذا المتحف في العام 1986، وتقول سلطات الاحتلال انه أنشئ "كجزء من مشروع تخليدي للكيبوتس، وكبيت للمجموعات الأثرية التي اكتُشفت في المنطقة".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها