تفتح الرواية على مشهدٍ بانورامي موصوفٍ بعين سينمائيّة لبلدة تل صفرا التي عاد إليه زكريا بعد هجرة طويلة، فيجري الكاتب مسحاً شاملاً لموقعها الجغرافي وطبيعتها ومسار حياة أهلها وتاريخهم مع السفر والهجرة، ليضيق المشهد أكثر فأكثر على زكريا العائد وهو يتأقلم مجدّداً مع نمط الحياة المتغيِّر فيها ويُحيي علاقته الأسريّة مع شقيقته، وصولاً بسرعة إلى العثور عليه مقتولاً بطلق ناريّ في صدره وهو متّكئ على جذع شجرة في كرم المحموديّة الذي تملكه عائلته.
يوحي الكاتب مباشرة، ومنذ الفصل الأوّل، باحتمال الانتحار كدافع، قبل أن توجّه أصابع الاتّهام مباشرة، على ألسنة الناس وأهل بيته شقيقته مرتا بنوع خاص، إلى أولاد عمّه يونس بسبب خلاف قديم على الميراث. ثمّ توسّعت دائرة المشبوهين لتشمل الدروز من أهل البلدة على أساس أنّ دافعهم هو الثأر لجريمة قديمة بحقِّهم، اقترفها ابراهيم والد زكريا، دفاعاً عن النفس في كرم المحمودية، ولم تكن الخلافات الشخصيّة سوى التعبير الآخر عن الأحقاد الدفينة الموروثة من أيّام الأحداث الطائفية والمجزرة التي وقعت بين الدروز والمسيحيّين قبل مئة وخمسين عاماً.
يُضاف إلى كل هذه الدوافع، عامل آخر من خلف البحار، ربّما تكون عملية انتقام من زكريا، نفّذها "الأَبرص" لبنانيّ الأصل، صديقه وربّ عمله في فرنسا وافريقيا وروسيا، بسبب تخلّف زكريا عن تسليم لوحة "عازف الكمان" الثمينة بناء على اتفاق بينهما على سمسرة بيعها قبل عودته إلى لبنان.
تكاثرت الاحتمالات على مكتب المحقِّق كمال أبو خالد، الذي عمل الروائيّ على بناء شخصيته بشكلٍ نمطيّ مميَّز، على غرار شخصيّات المحقّقين التاريخيّين المعروفين في الأدب أو الأفلام البوليسية. مندفعٌ في عمله مخلص ومتفرّغ له، مُدَّعي جدارة، وصارم وجدّي، حضوره متلازم مع كلب من نوع بولدوغ يبقيه بجانبه ويداعب رأسه وهو يراجع موادّه، ما يذكّر بزعيم العصابة أو قائد جهاز المخابرات في أفلام جايمس بوند وهو يداعب رأس هرّ من دون أن نرى وجهه، أو على غرار المحقّق كولومبو ذي معطف المطر الأبيض والسيغار في فمه برأسه المائل ونظرته المنحرفة التي تنمّ عن ذكاءٍ ودهاء.
تابع المحقّق كمال تحقيقاته إنطلاقاً من رأس خيطٍ في كلّ مرة، وفي كلّ مرّة يُفلِت منه الخيط لتوفّر أدلّة وقرائن تُسقط الشبهات فيعود مجدّداً إلى نقطة البداية، معتمداً في كلّ مرّة خطّة عملانيّة يحاول بها ربط خيوط الجريمة على خطٍّ ما قبل أن يسقط في يده.
تبدو الحبكة متينة من الزاوية البوليسيّة وإن لم تأتِ خلاصاتها جازمة مقنعةً من حيث الوقائع والأدلّة ومسار التحقيقات، بسبب يأس المحقِّق واستعجاله الذهاب إلى الخيار الأسهل، أي القول بانتحار زكريا "ستكون هذه الميتة الأقلّ ضرراً والأخفّ لبكة"، وهو ما أوحت باحتماله الرواية منذ البداية وفي غير محطّة منها. وهذا ما جعل البعض يرى فيها مجرَّد "حكاية" ممتعةً وإن افتقرت حلقاتها إلى التماسك والعمق أحياناً. لكن من الواضح أن الكاتب لم يردها رواية بوليسيّة صِرفة، ولو أراد لأتقن ذلك ربما وهو الروائيّ المتمكِّن تقنيّاً وثقافيّاً، بل أرادها رواية "قضيّة" قائمة على اللعبة البوليسيّة، وهو نوع من الأدب البوليسي القائم في العالم. فهناك الرواية البوليسيّة ذات الأساس الاثنيّ أو العنصريّ أو الدينيّ أو الثقافيّ أو الأخلاقيّ أو العلميّ التي تكشف عبر حبكة مشوّقة ومتقنة السبك بوقائعها وخفاياها الجوانب الخفيّة في هذه القضايا المُتنازَع فيها. هذا ما نلمسه مثلاً عند دان براون في رواية "شيفرة دافنشي" (تحقيقات وملاحقات على أساس دينيّ) والأصول (أساس علميّ). إنّها محاولة إذن من الدويهيّ لطرق باب الرواية التقليديّة من زاوية جديدة، أي من التركيبة البوليسيّة. من هنا يُسجّل لجبور الدويهيّ، الروائيّ البارز عربيّاً وعالميّاً، جرأته في طرق هذا الباب الذي لم تلقّ المحاولات فيه رواجاً ملحوظاً في العالم العربيّ.
هذا المنحى لبناء الرواية البوليسيّة-القضيّة اضطر الكاتب إلى إشراك صوته "الراوي" مع صوت المحقّق في سعيه إلى فكفكة خيوط الجريمة، فإذا هو، الراوي، يتولّى استعادة تاريخ بلدة تل صفرا غائصاً في الماضي، بما فيها من علاقات ملتبِسة وصراعات طائفيّة وأسلوب حياة وشخصيّات نمطيّة وألوان محلّية يمرّرها الكاتب بلباقة ممتعة عبر السرد، وصولاً إلى زمن الرواية. والملفت هنا تأريخ الكاتب بواسطة الأحداث الطبيعية أو العالميّة الكبرى، من دون تواريخ دقيقة (سافر زكريا يوم مرور مذنَّب هالي، أو زمن الاجتياح الاسرائيليّ لبيروت). وهو، الراوي، الذي يتتبَّع تجوال زكريا القتيل في بلاد العالم قبل عودته ومقتله، فينقل أدقّ التفاصيل عن أعماله ومغامراته المشبوهة أحياناً وعلاقاته بالنساء وزاوجه الأخير في الولايات المتحدة وإنجابه فتاة تُقتل في مجزرة مدرسة على يد مريض مهووس، فيحمل رمادها معه إلى لبنان، وربما مقتلها هو سبب تفكيره الدائم في الانتحار ما شكّل أحد مفاتيح حلّ لغز الجريمة. ومع رماد ابنته يحمل لوحة عازف الكمان الثمينة افتراضاً والتي تبيّن أنها مزوّرة، وقد تكون سبباً آخر من أسباب مقتله. وبالطبع يقف مطوّلاً أمام سِيَر حيوات أفراد عائلته وصولاً إلى تملّك جدّته فيلومينا كرم المحموديّة وظروف الأحداث التي وقعت فيه والظروف التي أحاطت به ما شكّل مفتاحاً آخر مُحتملاً لحلّ اللغز.
تولّى الراوي إذن استعادة هذه المسارات بالتفاصيل الدقيقة لحياة الضحية الحافلة بالأحداث والمشاكل والتي ما كان للمحقّق كمال أبو خالد أن يقوم بها. فهو لم يسافر لمتابعتها، ولم يرسل محقّقاً مساعداً ولم يتّصل بالانتربول مثلاً للحصول عليها، كما يفعل محقّقو الشرطة في العالم، أو المحقّقون الصحافيّون أو الفضوليّون على غرار ما نشهد في الكثير من الروايات أو الأفلام البوليسيّة. كل ما حصل عليه من غربة زكريا مبارك الطويلة هو علاقته المشبوهة "بالأبرص" وذلك بواسطة صديق له هنا في بيروت سلّم القتيل قبل مصرعه وبإيعازٍ من الأبرص مسدّساً من نوع غلوك 17. لو جعله الدويهيّ يقوم بذلك لأصبحت "ملك الهند" رواية بوليسيّة مكتملة. لكنّه فضّل جعل الرواية تتبع مسارَين، مسار التحقيق ومسار الاستعادات، تسهيلاً لتوفير عناصر القضية التي يطرحها، وليس لمساعدة مسار التحقيقات وحسب. وهو ما جعل حضور الراوي العليم طاغياً بقوة ليحتلّ أكثر من ثلثي الرواية. ولا غرو في ذلك إذا ما اعتبرنا أن الدويهيّ أراد التركيز على القضية أكثر منه على الجريمة، ولو أخلّ إلى حدٍ ما بالتوازن المفروض بين الخطّين. فالراوي هو بمثابة عين الكاميرا الثانية المواكبة والموضِحة كما في الأفلام السينمائيّة لمسار التحقيقات، ومن هنا إمكانيّة افتراض وضعين نهائيّين للرواية، المحقّق أوحى بالانتحار (حلّ نهائيّ) بينما الوضع يبقى ملتبساً وغامضاً انطلاقاً من كلام الراوي.
هي قضية وطنٍ "قائم على خط الزلازل"، تاريخه حافل بالصراعات والحروب الطائفيّة والخلافات العائليّة. مجتمعه مشبع بهذه العقليّات ومنقاد لغرائزه وشخصيته المعنويّة المتكوّنة عبر مئات السنين من مؤثّرات هذا الصراع. هو بلد خالٍ من تعقيدات المدن الكبرى بما فيها من جرائم منظّمة ومؤامرات مافيوزية، بلد صغير ما يزال ريفياً إلى حدٍّ بعيد، تنكشف فيه الجرائم توّاً ويُعرَف القاتل على الفور، لكنه في هذا النوع من الجرائم لا يجد سبيلاً، أو رغبة في كشفها، فما إن تقع جريمة من هذا النوع حتى توجّه أصابع الاتهام في مختلف الاتجاهات، وهو ما يضلّل التحقيق أو تتهيَّب الدولة كشف ملابساتها خوفاً من تجدّد الصراعات. دولة مترهّلة المؤسّسات والعناصر كما يتبيّن من اللحظات الأولى لوقوع الجريمة حيث يستعجل الرقيب الذي أجرى المعاينات الأولى أنهاء مهمته بأسرع ما يكون، ناهيك عن التلاعب المصلحيّ والنفعيّ بمسرح الجريمة وأداواتها. بلدٌ تُطمس فيه الحقائق خوفاً من تفجّره في أي لحظة.
يتابع الدويهيّ هذين المسارين بأسلوبه المعهود، لغة سهلة ومبسَّطة، مقطوفة عن ألسنة الناس، تلامس الكلام العاديّ على طريقة الحكواتي البارع والمشوّق، من دون أن يُسِفّ أو يقع في المُبتذَل. الوصف عنده مُقتضَب بما يخدم مسار الأحداث، تلميحيّ ومبطّن في طيّات السرد. نرى عنده لفتات أو لمحات عابرة، نظنّ لوهلة أنها مجانيّة، مثل مشهد السواح اليابانيّين في بهو الفندق، أو الحجاج المسلمين المنتظرين في مطار بيروت، أو لوحة إعلانيّة في أماكن السفر الكثيرة، أو المسافر الفرنسيّ بجانب زكريا يقرأ في مجلّة "إيكيب" الرياضيّة، أو زمامير السيارات والشاحنات على الطريق السريع لزكريا وجاين متعانقان يتبادلان القبل. والحال أن الدويهيّ يصف بعين سينمائيّة، فلا بدّ لهذه التفاصيل أن تمرّ ولو سريعاً وراء الشخصيات أو في محيطهم في أماكن تحرّكهم، هي تفاصيل مكمّلة لخلفيّة المشهد، واقعية وجماليّة التشكيل في آنٍ معاً. وهذه الرشاقة في أسلوبه السرديّ العفويّ والمتقَن هي ما ميّز كتاباته كلها وجعلها موضع إعجاب القرّاء وقريبة من أذواقهم وأفهامهم. لكن يمكن أن يكون الإمعان في متابعة هذا الأسلوب قد أدّى إلى تراجع في مدى انضباطه وتماسكه في هذه الرواية الأخيرة، ومن هنا ضرورة أن يبدأ الدويهيّ التفكير في تطوير وتجديد أسلوبه هذا والذهاب به نحو جماليّات وتقنيّات أخرى قبل الوقوع في تكرار الذات.
الحقيقة أن ميل الكاتب إلى هذا التبسيط وهذه العفوية قد أوقعه في أغلاطٍ إن أمكن التغاضي عن بعضها فلا يمكن ذلك عن بعضها الآخر، وأعني من ناحية سوء إنزال بعض المصطلحات والكلمات الوضعيّة في مكانها المناسب. مثلاً نرى زكريا القتيل "جالساً ممدّداً" وهي وضعيّة غير معقولة. ومنها "مُفترياً على بعض الأشغال" والافتراء يكون بالكلام وليس بالعمل والأصح القول "متعدّياً" وهي مستعملة على ألسنة الناس. و"يحضّر انشقاقه" عن الحبيبة والأصح "انفصاله". ومنها "تقود بطلاقة" والطلاقة للكلام وليس للفعل، وكان زكريا... "يُحصي" الخارجين (مفتِّشاً عن ابنته عند حدوث المجزرة) والأصح في السياق "يتفحَّص" أو "يستطلع وجوه الخارجين"، و"روى نسخة" مماثلة والأصحّ "صيغة".
يضاف إلى ذلك استعمال بعض الكلمات مترجمة عن الفرنسيّة بشكلٍ مغلوط، فإن جاز القول إنّ البلدة "جالسة" (assise) على تلّة بدل "رابضة" أو قائمة" إلا أن بعض المفردات الأخرى المترجمة عفوياً في ذهن الكاتب أفقدت المعنى بعض وضوحه وأوقعه في الركاكة، ومنها، عن رسالة بالفرنسيّة "أنت شجاع" (tu es brave) والأصحّ "انت رجلّ طيّب"، و"إسهر عليه" (veiller sur) والأصح "إحرص عليه أو اعتنِ به أو انتبه عليه"، والمال "السائل" (argent liquide) والأفضل في السياق "المال النقديّ أو الجاهز"، إلى غيرها من هفوات نتبيّنها في الرواية.
ولا يمكن التغاضي عن بعض الأغلاط اللغوية من مثل "فغر فوه" والصحيح "فاه" و"تنهيه" والصحيح "تنهاه"، ومكتوفة "اليدين" وليس "الأيدي"، ورفيقات الدروس "يأتمنَّه" وليس "يأتمنونه"، وكان لمن يعرف عائلته وماضيها "مزيجاً متناقضاً" وليس "مزيج". وليس مستبعداً وقوع الكاتب، كما غيره من الكتّاب، في هذه الأخطاء وهو الآتي من الثقافة الفرنسيّة ولغتها، لكن اللوم هنا يقع على دار النشر المفترض أنها القارئ الأوّل أساساً، والتي يُفترض بها أن تكون أكثر دقّة في أعمال تحرير النصّ وتدقيقه لغويّاً.
أيّاً يكن فإن رواية ملك الهند استحقّت الوصول إلى القائمة القصيرة لجائزة بوكر، وإن لم تفز بالمرتبة الأولى فهي ليست أفضل روايات الدويهي الذي كان يستحقّ بالأحرى الفوز بها عن إحدى روايتيه مطر حزيران أو شريد المنازل. لكن السؤال يبقى حول المعايير التي تعتمدها لجان التقييم المتعاقبة على إدارة الجائزة، فهل هي فعلاً تولي أهمّية إلى المعايير التقنيّة التي يعتمدها الكتّاب ويعملون بها من أجل الخروج بأعمال إبداعية، كما حاول الدويهي، من أجل تشجيع النهوض بالفنّ الروائيّ العربيّ انطلاقاً من جماليّاته التقنيّة؟
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها