الجمعة 2020/06/26

آخر تحديث: 14:09 (بيروت)

لبنانيون يقايضون ليأكلوا

الجمعة 2020/06/26
لبنانيون يقايضون ليأكلوا
"البرادات الخاوية" (غيتي)
increase حجم الخط decrease

نظام اقتصادي رديف يتمدد الآن في لبنان. التبادل بالمعنى الحرفي. المقايضة بمفهومها الموغل في القِدم، ليس لمبادلة "آيفون" حالته جيدة بـ"آيباد" مستعمل مثلاً، ليس لترف صغير أو كبير يُفضّل ألا يُثقل ميزانيات الأُسر والأفراد.. بل لمبادلة دزينة من الكؤوس المزخرفة بالحفاضات وحليب الأطفال والأدوية، أو الثياب الولادية (المعقّمة لزوم إجراءات كورونا) بكيس زعتر وعلبة جبنة "بيكون" التي لطالما حُسبت على سلّة تسوق "العائلات المستورة". المقايضة من أجل أبسط أساسيات العيش، بعدما اتسعت بشكل مرعب دائرة اللبنانيين الذين ما عادوا قادرين على شرائها.

سوق جديدة للمقومات الأولية للحياة، خارج شبكات الصيارفة والمصارف، وفضاءات التسوق التقليدي الحقيقي والافتراضي، خارج مسارات الدولار والليرة الوحشية، وخارج حتى المنظومة "الحديثة" للبيع والشراء. سوق مثخنة بالألم والعوز، بالخذلان والمأساة. علامة فجّة على انسداد الآفاق المنظورة، خلافاً للأمل المفترض أن يبثه أي جديد تجاري. هكذا، ولمَن يريد ملخّصاً كثيفاً لمآلات الحياة اللبنانية اليوم، بالمحسوس والمُعاش، ما عليه إلا زيارة صفحة "لبنان يقايض"، والتي يرجّح أنها ليست الوحيدة من نوعها في مواقع التواصل الاجتماعي. "لبنان يقايض"... بعدما، وحتى أشهر قليلة خلَت، كانت صفحات بمسميات من قبيل "لبنان ينتفض" تتكاثر وتحصد مئات آلاف المتابعين والمشاركين.

ما زال هناك في الصفحة من يبحث عن ماكينات رياضية أو خلّاط كهربائي. لكن المفزع هو الكمّ المتزايد للمنشورات التي يسعى أصحابها لاستبدال أغراض شخصية ومنزلية، بما يسدّ الرمق ويتكفل بحاجات الأطفال والرضّع. هؤلاء من مناطق لبنانية على امتداد الخريطة، من بيروت شمالاً، ومنها جنوباً. الكارثة لا تستثني طائفة أو لوناً جماهيرياً لهذا الزعيم أو ذاك الحزب. والتقليب في "لبنان يقايض"، لا يختلف عن التنقل بين صور البرادات الخاوية التي نشرتها "فرانس برس" قبل أيام. سكين في المعدة.

وثمة المزيد في جنبات هذا المؤشر على الانهيار العميم. أناس يبيعون الذاكرة، الأحلام البسيطة، بعض "الدلال" الذي استطاعوا يوماً توفيره لأنفسهم وأولادهم، واحتمالات مُتع صغيرة كحضور سهرة أو الخروج إلى مطعم مميز يرتدون من أجله صفوة الخزانة. أناس يقايضون على ما كان يمكن أن يمرروه، من دون تفكير، وبلا مقابل، إلى أفراد العائلة الممتدة أو الجيران، أو حتى كتبرّع لجمعيات تُعنى بالأكثر فقراً. الملابس والأحذية الولادية، والسرير الصغير المزود بناموسية، أغراض لطيفة، صُورها تستدرّ ابتسامة حزينة، ولا تجد مستقرها الآن عند أخت أو صديقة رُزقت مولوداً جديداً، على غرار هِبات أمهاتنا وجدّاتنا. فستان السهرة الأسود، والأحذية النسائية "المزنطرة" ذات الكعب العالي، ما عادت في انتظار وعد بحفلة أو مأدبة يُحتفى بالذهاب إليها أمام المرآة. والصينية "الستانلس ستيل الفاخرة" مع أكواب الكريستال البوهيمي، فقدت وظيفتها الأساس. فلا "زيارات رسمية" الآن تستدعي إخراج أطقم الضيافة المحبوسة غالباً في خزائن غرف السُّفرة، بعيداً من الاستهلاك اليومي. فالزوار الذين قد ترغب ربة المنزل في إثارة إعجابهم أو غيرتهم، انقرضوا، والأولوية الآن لكيس الحفاضات وكيلو الحليب... أو "10 ليترات زيت قلي، كل قنينة 2 ليتر، 5 قناني لخمس عائلات".

لبنان، هنا، يقايض تفاصيل حيوات كاملة، كانت ذات يوم، وكل على مقاس إمكاناته، تحصيلَ حاصِل، حبّاً وفرحاً، زهواً بالذات والأولاد.. يعرضها في سوق الأزمة، ليحصل على ما لم يعد بديهياً من مأكل ومشرب ومستلزمات البقاء، للصغار والكبار، لتحقيق الصمود المُجرّد، في انتظار حُلول مفقودة، أسوة برائحة البطاطا المقلية إن لم تنجح إحدى المقايضات في إدخال الزيت إلى البيت.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها