السبت 2020/06/20

آخر تحديث: 11:27 (بيروت)

"فرج فودة": إعادة اغتيال؟

السبت 2020/06/20
"فرج فودة": إعادة اغتيال؟
increase حجم الخط decrease
في رمضان الماضي، وإثناء إذاعة مسلسل "الاختيار"، أثار منشور قديم في فايسبوك، لأحمد الرافعي، أحد الممثلين في المسلسل، موجة من الغضب. فمنشور الرافعي الذي كان يحتفي بقتل فرج فودة في الذكرى الـ27 لاغتياله، ويصفه بالنفوق، بدا متماهياً مع دوره في "الاختيار" كقيادي في جماعة إسلامية متطرفة، ومناقضاً لرسالة العمل المفترض به تجسيد بطولات الجيش المصري في مواجهة الإرهاب. لكن الرافعي لم يجد تعارضاً بين الأمرين وهو يصرح في لقاء تلفزيوني بأن التيار العلماني الذي ينتمي إليه فودة: "يوجه الرصاص إلى عقول أبناء الشعب المصري مثلما أطلق الإرهابيون النار على صدر الوطن". حينها عاد فرج فودة مرة أخرى للظهور في ساحة الجدل، كما اعتاد في حياته، وكما يعود دائماً بمقولته التي أضحت شعاراً شبه نبوي يرجع إليها كثيراً: "هنا تبدأ الدائرة المفرغة فى دورتها المفزعة. ففى غياب المعارضة المدنية، سوف يؤدى الحكم العسكري إلى السلطة الدينية. ولن ينتزع السلطة الدينية من مواقعها إلا الإنقلاب العسكري..". 

عاد الرافعي ونشر بياناً لم يحاول من خلاله الاعتذار، بل اكتفى بنفي انتسابه لأي جماعة متطرفة وتقديره للجيش المصري. كردّ فعل، أعلنت الهيئة المصرية للكتاب، عزمها إعادة بث مناظرة فودة في معرض الكتاب العام 1992 حول الإسلام والدولة، تكريماً لذكراه. لكن ما وصفته الهيئة بالهجوم الإلكتروني على صفحتها دفعها لإلغاء البث، ليتبدد المشهد سريعاً، كاغتيال جديد لفودة.
 

في الذكرى الـ28 لمقتله، يوم الاثنين الماضي، بثت قناة الجزيرة، للمرة الأولى، فيلم "اغتيال فرج فودة"، والذي كان أُنتج قبل سنوات. وكما كان متوقعاً، أثار الفيلم بعضاً من الجدل. كانت جهة الإنتاج نفسها سبباً لغضب المتعاطفين مع فودة. فمنصة "ميدان" التابعة لموقع الجزيرة، على سبيل المثال، كانت قد نشرت، في العام 2018، بعد أسبوعين فقط من ذكرى الاغتيال، مقالاً كان عنوانه كافياً لتوقع محتواه: "فرج فودة.. مفكر أم صنم صنعته البروباغندا؟". أما الاعتراضات الكثيرة على بنية الفيلم ومضمونه، فقد فصلها بدقة مقال لحسين الوادعي بعنوان: "هل اغتالت قناة الجزيرة فرج فودة مرة ثانية؟" نشر في موقع "مرايانا". 

"وهكذا كان القتل مريحاً لكلا الطرفين… استراح خصوم فرج فوده من لسانه وأفكاره، بينما رحل الرجل عن هموم الدنيا بأسرها". تأتي هذه الجملة على لسان المعلق في الجزء الأخير من الفيلم كأسوأ ما فيه، ومع هذا فإن اتهام صنّاع الفيلم بترويج سردية الجناة يبدو ظالماً. نال منتسبو التيار الإسلامي الجهادي والدعوي، ومن بينهم أحمد أبو العلا عبد ربه، أحد المشاركين في عمليه الاغتيال، نصيباً وافراً من الوقت للحديث، لكن هذا في الأغلب كان واحداً من مميزات الفيلم، لا عيوبه. أتاح "اغتيال فرج فودة" فرصة للاستماع للجناة، وللنظر في دوافعهم، وفي ما تغير فيها. لا يُظهر الجاني أدنى درجة من الندم بعد كل هذه السنين. أما ناجح إبراهيم، أحد قيادات الجماعة الإسلامية التي وقفت خلف العملية، فيعترف بأن الاغتيال كان خطأ، ففودة بحسبه "كان يحتاج إلى هداة وليس إلى قضاة"، لكنه يبرر هذا التراجع بأن اغتياله قد أسبغ عليه "القداسة"، وحوّله إلى شهيد، وتضررت صورة الجماعة بشدة بعده.

لا نعرف الكثير عن فودة نفسه من الفيلم، سوى المعلومات الأساسية المتاحة من قبل، ولا نسمع من القريبين منه، باستثناء جملتين من رفعت السعيد في بداية الفيلم، بخصوص اتصاله الأخير به قبل اغتياله، وبالكاد نسمع صوت فودة. فالفيلم ليس عن فودة نفسه، بل عن اغتياله. اكتفى صناع الفيلم بالتعامل مع تراجيديا الاغتيال كواقعة سياسية، بلا أي أبعاد أخرى، أو بقيت تلك الأبعاد بعيدة في الخلفية. وكذا لا نعرف الكثير عن واقعة الاغتيال نفسها، مما لم نعرفه من قبل، ولا عن سير التحقيقات ولا القضية، ولا حياة الجناة السابقة أو في السجن أو بعد هذا.

يفي الفيلم فودة حقه، ككاتب مشاكس، مؤمن بما يقوله ومخلص له، بشجاعة استثنائية ونادرة وفريدة من نوعها، وقف في وجه الإسلاميين والنظام، ضد الأزهر وأحزاب المعارضة، ضد الدولة الدينية وضد الدولة العسكرية، بلغه لاذعة وساخرة ووقورة. والأهم، أنه كان راغباً في أن يصل صوته إلى العامة، وأن يناظر خصومه علانية، وأن يقرن مشروعه الفكري بعمل سياسي، متنقلاً بين الأحزاب ليخوض انتخابات، يخسرها بالتأكيد، ويسعى لتأسيس حزب يرفض النظام ترخصيه، ويقف في مناظرات أمام عشرات الآلاف من الجمهور، يعرف أن ثمنها الموت.

في الوقت نفسه ركز الفيلم على المنطق والمبررات الشرعية التي طرحها الجناة لإهدار دم فودة، وخصص صنّاعه مساحة كبيرة لتلك الجزئية والتي لم تتجاوز ما طرحته الجماعة الإسلامية في الماضي. لكن المساحة الأهم التي سعى "اغتيال فرج فودة" لاستكشافها، هو العلاقة بين الجماعة الإسلامية والنظام الحاكم، من التحالف المرحلي في عهد السادات الذي انتهي بالصِّدام واغتياله، ثم لاحقاً مهادنة نظام مبارك للجماعة والسماح لها بالنشاط الدعوي، ثم العودة إلى الصِّدام مرة. ما يتكشف رويداً رويداً، أن فودة كان ضحية تقلبات علاقة الدولة بالجماعات الإسلامية، بحسب الجناة كان هو هدف من الدرجة الثانية، لكن استهدافه كان جزءاً من رد واسع على سحب النظام رخصة النشاط الدعوى الضمنية التي تمتعت بها الجماعة. لا يغتال الفيلم فودة مرة أخرى، بل يخبرنا أنه، بمقتله، لم يكن ضحية لتعاقب الدائرة المفرغة بين العسكر والإسلاميين، بل ضحية تعايشهما المضطرب، أو بالأحرى تماهيهما معاً، ذلك التماهي الذي يظهر في المشاهد الأخيرة للمحاكمة حين يقف رجال مؤسسة الأزهر ليفتوا بوجوب قتل فودة، بعدما مات.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها