الإثنين 2020/06/15

آخر تحديث: 13:53 (بيروت)

لوران دو سوتير: لم نعد إغريق حيال الأوبئة

الإثنين 2020/06/15
لوران دو سوتير: لم نعد إغريق حيال الأوبئة
لوران دو سوتيه
increase حجم الخط decrease
في حال تحديد كلمة سر للكتيب الالكتروني الذي نشره الفيلسوف لوران دو سوتير، منذ أيام، عن دار"لوبسرفاتوار-سلسلة ماذا بعد؟" بعنوان "تغيير العالم"، فالأرجح، هي "لوجيستيات". إذ إنه، وطوال بحثه في وباء كورونا، يحيل إليها بما هي ليست مرئية، لكنها، وبفعل ذلك الوباء، صار الوقوف عليها ضرورياً للغاية. بالطبع، المقصود من اللوجستيات هو البنية التحتية بالمعنى الكامل لها، التي تتيح بناء العالم، أو استمرار عملية تحويل الأرض إلى معمورة حيوية، تترابط أنحاؤها، وتتصل بعضها ببعض.


على أن دو سوتير يشير إلى أن العالم ذلك مصاب بداءٍ، لا يستطيع الإقرار به، وهو داء يفيد بانغلاقه على بنية لوجيستية معطوبة، وعطبها لا يتعلق بعملها الذي يساوي تدمير محلها إذا صح التعبير، وهو الأرض بحد ذاتها. على هذا النحو، تبدو هذه البنية أنها، ولكي تشيد العالم الذي نعيش فيه، تدمر حماله، تدمر ما يحمله. وفي إثر اضطراب عالمنا، واختلال توازنه، فهو، من ناحية، يقفل على ذاته، ومن ناحية أخرى، لا يقفل سوى لينتج منفييه، الذين، ومثلما هو معلوم، يبرزون فيه من جديد. وآخرهم كان وباء كورونا.

إلا أننا لم نعد إغريق، يقول دو سوتيه، ومعنى هذا، بحسبه، أمر معين، يستدل عليه في العودة إلى عبارة "وباء"، مستعيناً بكتاب مارسيل ديتيان عن ديونيزوس. فالوباء، من أصله القاموسي، يشير إلى الـ"épi-demos"، أي كل ما يبرز في موطن منتظم، ويشرع في الإنتشار داخله. بالتالي، الوباء، وقبل أن يكون واقعة بيولوجية، هو واقعة جغرافية واجتماعية، وبهذه الطريقة، هو يستدعي التعامل معه، كيف؟ لقد كان الإغريق، وبتقديم الأضحية إلى ديونيزوس، إله الـxenos، إله الغريب، يطلبون منه أن يوفر لهم سبل تعاملهم معه. وهذا على أساس سياسة ما، يدبرون عبرها الإنفتاح على الوباء، على الغريب، وتأمين الموطن له، من دون الشعور بتهديده، ومن دون الركون إلى إزالته. سياسة، لا تتصوره صديقاً من دون ركائز، ولا تجعله شيئاً آخر لما هو عليه. لكنها تُعين على استقباله والتعامل معه. وأول هذا التعامل، أول بغية منه، هو التعايش مع كونه، وفي وضع كورونا، قد يؤدي إلى الموت، اي هو التعايش مع الموت.

من هنا، يصيب دو سوتير حين يقول: لم نعد إغريق، بحيث أننا لم نعد نتوجه إلى ديونيزوس، الذي تبخر، أو الذي تعرض للاغتيال. فحين يحل "الغريب"، نمضي إلى طرده، إذ أننا لسنا مهيئين له (وبأ الشيء، هيأه). فتلك الخطبة الكونية ضد الكورونا، أي خطبة الحرب عليه، ليست سوى إشارة إلى كوننا قد أقلعنا عن "وبأ" عالمنا، وصار كل "غريب" يبرز فيه، نذهب إلى إلغائه، ولا نجد فيه سوى عدو. وحين يصير الغريب عدواً، فهذا لا ينم عن "زينوفوبياتنا" فحسب، إنما هو من موت دبلوماسيتنا، وتحللها، لدرجة إعلان العمليات الحربية على وباء.

في هذه الجهة، يحاول دو سوتير أن يركز أطروحته حول "تغيير العالم"، الذي يشدد على أن يكون نظامياً. إذ إنه تغيير يقوم بنظام مختلف من العلاقات، من اللوجيستيات، التي تتيح بناء عالم لا يكون "عملاً فنياً مريضاً"، إنما عالماً مؤسساً بالتعايش بين كل الكائنات، الإنسية منها والحيوانية وغيرها. ففي هذا العالم، لا إنكار، أو جهل بآخريته، أياً كانت، لا سيما الأرض نفسها، التي، وفي الأصل، لا تنقل اللوجيستياتُ مواردَنا سوى منها.

فمن الممكن القول إن العالم المختلف، الذي يطرحه دو سوتير، هو ربما عالم لا يطعن في تناسي حماله، أي الأرض، أو البسيطة، التي يأرضها، التي يوبأها، لتكون حاضرة فيه، وليست معرضة لتدميره لها. فلكي يقدر العالم على التعايش مع كل غريب يبرز فيه، لا بد له من أن يكتشف بكونه مبنيا على بسيطة بين "غرباء"، وعلى كون لا بد له من الوباء ما هو سياسة تؤمن تعايشهم. "الاغريق عرفوا ذلك لدرجة صعودهم إلى مقام الآلهة، نحن علينا الارتفاع إلى مقام الفيروسات". 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها