الثلاثاء 2020/05/05

آخر تحديث: 14:38 (بيروت)

دايماً كوكا كولا

الثلاثاء 2020/05/05
دايماً كوكا كولا
دعاية كولا
increase حجم الخط decrease
إذا تأملنا في إعلان شركة "كوكا كولا" في لبنان، إنهاء عملها، وتسريح جميع العاملين لديها، في خضم الأزمة المالية التي شلت الحركة التجارية في البلاد، نجد أنه لا ينبغي التعامل معه كحدث عابر، إذ لا ينفصل عن مسار السياسة في لبنان. وتوقف الشركة العالمية، إشارة إلى أن الاقتصاد اللبناني في إجازة. فليس صدفة أن تقفل فنادق (البريستول والكسندر) ومؤسسات إعلامية، ومطاعم عالمية (بيتزا هات،...) لها فروعها في لبنان. والإقفال في تداعياته، مرآة حقيقية للواقع الذي وصل اليه لبنان.


وتعتبر هذه المرة هي الثانية التي تعلن فيها شركة "كوكا كولا" إنهاء عملها في لبنان، إذ كان الإعلان الأول عن إيقاف عملياتها التشغيلية، خلال الحرب الأهلية، وإذا ما قفزنا عن التوقف القسري في المرة الأولى، نقرأ في أحد التقارير بأنه لا يكاد يخلو متجر في أي مكان بالعالم من أحد منتجات شركة "كوكا كولا" للمشروبات الغازية، إلا أن هناك بعض الدول القليلة التي لا يمكن أن تتوافر فيها هذه المشروبات الشهيرة. بمعنى آخر، يشكل المشروب الغازي أبرز علامات العولمة التي سبقت تحقق العولمة كواقع، وكثيراً ما ارتبطت إعلانات "كوكا كولا" وأنصابها بالتحولات السياسية والاقتصادية في العالم. وثمة من يعتبر دخولها إلى أي بلد، دليلاً على "المستقبل الجديد"، خصوصاً بعد انتهاء "الحرب الباردة" وانهيار الشيوعية.

وفي ألمانيا الشرقية سابقاً مثلا، سلم موظفو "كوكا كولا" علب مشروبات مجانية للناس، خلال سقوط جدار برلين العام 1989، ودخلت المنتجات، السوق، رسمياً، في العام التالي. وبحسب المعلومات المتداولة، تتفرد كل من كوريا الشمالية وكوبا، وهما بلدان "شيوعيان"، في عدم بيع مشروبات "كوكا كولا" منذ سنوات، بسبب توتر العلاقات بين الولايات المتحدة وهذين البلدين. وبسبب الحظر التجاري طويل الأمد الذي تخضع له كوريا الشمالية من الولايات المتحدة، منذ العام 1950، فإن منتجات "كوكا كولا" لا تدخل هذا البلد. وبدأت كوبا في حظر دخول منتجات "كوكاكولا" إلى أراضيها بعد بدء فيدل كاسترو العام 1962 تأميم الشركات الأجنبية العاملة على أراضي البلاد، ومن ضمنها شركة "كوكا كولا". وكانت آخر دولة دخلتها منتجات "كوكا كولا" هي ميانمار في العام 2013، بعدما بدأت علاقاتها مع المجتمع الدولي في التحسن خلال السنوات القليلة الماضية.

أما في لبنان، البلد الليبرالي الرأسمالي، فمع انهيار ليرته، "طفشت" كوكا كولا من دياره... وفي كل الأحوال، لهذا المشروب قصته في لبنان. فقد بنى معمله رجل الأعمال الراحل نجيب صالحة في العام 1955، بعد حصوله على امتياز بيع المشروبات الغازية من ماركتي "كولا" و"ميرندا". ويشير المؤرخ حسان حلاق الى أنه، بعد حرب حزيران 1967، وبعد اتخاذ الدول العربية قرار مقاطعة المؤسسات التي "تعود أرباحها إلى اسرائيل"، عمدت إدارة معمل "كوكا كولا" في لبنان الى تغيير اسمه، ليصبح "كا كولا" واستمر العمل فيه. الالتفاف على التسمية لم يغيّر من واقع الحال شيئاً، بل على العكس تكبّد المصنع خسائر مادية كبيرة جراء مقاطعة اللبنانيين له، الى أن أقفل نهائياً.

وكان الروائي المصري صنع الله ابراهيم تحدث في روايته "اللجنة" عن نفوذ "الكوكاكولا"، وهو يعرض فيها نقداً ساخراً لدول المنطقة العربية وما تنتهجه من سياسة انفتاح على السلع الأجنبية متخذاً من "كوكاكولا" رمزاً ليدلل على طريقة معاملة الدول لمواطنيها. يقول ابراهيم على لسان بطل الرواية: "من حقنا أن نصدق ما يقال عن هذه الزجاجة البريئة المظهر وكيف أنها تلعب دوراً حاسماً في اختيار طريقة حياتنا.. ورؤساء بلادنا وملوكها، بل والحروب التي نشترك فيها، والمعاهدات التي نوقعها".
 
والمفارقة أن الحرب أوقفت معمل الكولا في بيروت، ثم حولته الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الى قاعدة عسكرية لدى دخولها إلى بيروت مع المسلحين الفلسطينيين في السبعينيات، ودمّرته الطائرات الاسرائيلية خلال اجتياح بيروت العام 1982. بعد الاجتياح، بيع العقار لرجل أعمال آخر يدعى محمد حمود، فحوّله الأخير الى موقف سيارات خاص، سرعان ما شُيّدت في مكانه جامعة خاصة..

أقفل المصنع التابع للشركة منذ فترة طويلة، لكن التسمية عاشت، ومحت الاسم الرسمي للشارع وفق التنظيم المُدُني للعاصمة اللبنانية، من ذاكرة السكان الذين لا يزالون يستدلون على هذا المكان باسم "منطقة الكولا" او مستديرة الكولا أو جسر الكولا أو محلة الكولا. وبعد تحرير الجنوب في العام 2000، اتخّذَ قرار بإطلاق اسم ساحة "المقاومة والتحرير" على منطقة الكولا، غير أن الاسم الأوّل ما زال هو الشائع بين اللبنانيين. في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف وعودة الشركات العالمية للاستثمار في لبنان، بدأنا نلحظ العودة التدريجية للكولا في بلد اعتاد على مشروب البيبسي. ووصلت ذروة الصراع بين المشروبين حين اختارت "كوكا كولا" المطربة الشعبية نانسي عجرم، كوجه اعلاني لها، لكنها فشلت في تغيير المعادلة. ومن قبل كانت الشركة تتعاون في إعلانات مع مجموعة من الممثلات المصريات، وكل إعلان مرفق بعبارة "الطاهر النقي"، و"اللحظة المنعشة"...

والظاهرة في لبنان أن اللحظة لا تبدو منعشة البتة. وفي هذا الإطار، لا بدّ من التذكير برواية "دايماً كوكا كولا" للكاتبة الكسندرا شريتح، وهي تسأل: "لو أن بيروت امرأة هل كانت تعاني من السيلوليت؟".. هذا السؤال لا تسعى الراوية "عبير ورد" الى الإجابة عنه. لكن ما أصاب بيروت وأصاب الراوية أيضاً، تذكّرته عندما وقفت أمام المرآة تراقب نفسها وترهلها. المهم في الرواية أنها تسخر من ثقافة "العولمة" التي تمثل "كوكاكولا" أحد أقنعتها. "عبير ورد" التي سماها أبوها على اسم محل الأزهار الذي يملكه، ولدت وفي القسم الأعلى من ظهرها "شهوة" صغيرة بين كتفيها تماماً، تشبه زجاجة صغيرة من الكوكاكولا، لأن أمها توحمت حين كانت حبلى بها على زجاجة "كوكا كولا" لم تتمكن من الحصول عليها. كان زوجها أو الوالد، يرفض أن يأتيها بها لأنها تمثل في نظره السياسة الأميركية التي يرفضها.    
هاجس الكوكاكولا سيتمثل أيضاً في قناع يانا، صديقة عبير الرومانية التي جاءت الى لبنان لتستقر مع زوجها السابق اللبناني، والذي اكتشفت سريعاً أنها لا تحبه "بل كانت مولعة فقط بالسفر الى بلاد بعيدة"، وسرعان ما انفصلت عنه لتعمل عارضة أزياء، ثم تُغرم بمدير شركة الكوكاكولا الذي تخلى عنها في حملها منه، لتعود الى موطنها. وتتحول قنينة الكولا نوعاً من استعارة للجسد ككل، فتتم المقارنة بينها وبين الفتاة فيتماثل فض العذرية مع فتح القنينة.
وفي إعلان نانسي عجرم استُعملت عبارة "افتح تفرح".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها