السبت 2020/05/30

آخر تحديث: 13:21 (بيروت)

لؤي حمزة عباس.. عن طبول فلاح رحيم

السبت 2020/05/30
لؤي حمزة عباس.. عن طبول فلاح رحيم
increase حجم الخط decrease
مع إعلان دار الرافدين، صدور رواية فلاح رحيم، "صوت الطبول من بعيد"، شغلني عنوانها، وتساءلت: أية طبول تلك التي جعل فلاح صوتها البعيد ثُريا في سماء روايته؟ ولأن لي مع عناوينه خبرة قراءات سابقة، فقد بقي أفق توقعي يموج بالأفكار، كل فكرة منها تفتح باباً على احتمالات تولّدها احتمالات. ومع وصول الرواية إلى البصرة، كانت تنتظرني في أحد أزقة العشار، في فضاء المكتبة العلمية الضيق، ومع التصفح الأول للرواية بدّدت عتبتاها احتمالاتي وأسكتت بعض حيرتي، فإهداؤها "إلى ذكرى أخي حسين، قتلته الحرب العراقية الإيرانية في السادسة والعشرين، وكنت يومها أصغره بعامين. وبينما أصارع الهرم يبقى هو فتياً إلى الأبد"، يقدّم ذكرى الأخ الراحل مفتاحاً من مفاتيح كتابة تراجيديا الحرب، ويضع هَرَم الأحياء مقابلاً لفتوّة الأموات الأبدية. وإذا تجاوزنا مفارقة العمر الجوهرية بين الأخوين، وما يسعى الإهداء إلى تثبيته من التماعة صادمة في المقابلة بين الموت والحياة في الطريق إلى الأبد، يستقر حسين شاباً مهما امتد الزمان به، وينكسر فلاح هرِماً في طريقه إلى أبديته. وفي ذلك المعنى انتصار فادح حزين على الحرب وثمارها المُرّة، وقد أحالت حسين ذكرى بعيدة تعمل الرواية على استعادتها ونفخ الحياة فيها، ومنحت فلاحاً مساحة زمنية وافية في الإنصات إلى صوتها والنظر في معانيها والبحث في ظلالها. في الصفحة التالية، وفي فيض آخر من معاني الأبد، تنتظرني عتبة عمر الخيام بترجمة أحمد الصافي النجفي:

قال قومٌ ما أطيبَ الحورَ في الجَنـّ
ـــــةِ قـلـتُ: المُـدامُ عنـديَ أطيـبْ
فاغْنَــمِ النَقْــدَ واترك الدَيْنَ واعلـمْ
أنّ صوتَ الطبولِ في البُعد أعذب

أطبقتُ الرواية وفي ذهني يتردد صوت الخيام آتياً من خارج الزمان، وخرجتُ من المكتبة.
إنه البُعد إذن، هاجس الرواية وإشارتها الأولى، البُعد بين زمن وقوع الحرب وزمن استعادتها سردياً، وهو بُعد شبيه بالمسافة بين أبديتين. أبدية حسين الشاب وأبدية فلاح الهرم، الشاب المقتول يظل شاباً أبداً، ويمضي الهَرِم في أبدية هرَمه، ذلك قانون الحياة، فكرت وأنا أمضي في أزقة العشار القديمة الضيقة، بأن الرواية ستعينني، لا بد، على التقاط ما يضمره العنوان من دلالة وما يرمي إليه من معنى، وذلك ما وجدته بالفعل في أكثر من موضع في فصولها: "هكذا قال عمر الخيام في رباعياته. لا يكون الفهم إلا من بعيد، المكان الوحيد الذي أحتمل فيه التفكير بالحرب من دون ألم أو قلق أو تورط هو هذا العرش، وهذا الجمال" (ص: 248 ). وفي الصفحة الأخيرة من الرواية يعود الصوت ليتناهى من بعيد، صوت الطبول الآتي من الحافات المحترقة، لم يعد كما ظنه سليم، بطل الرواية، إذ "كان له إيقاع موحش، متوعد، متسع كدخان يتصاعد فيقلب صورة الأفق ويسحب إلى مصدره الملتهب كل من يدب على وجه الأرض" (ص: 379).

يتحقق جانب أساسي من أهمية رواية فلاح رحيم، من كونها تعالج عدداً من القضايا التي بقيت مؤجلة، رغم أهميتها، أقرب إلى التجاهل والنسيان على عادة الثقافة العراقية، قضايا يصل عمرها لأربعة عقود، هي المدة الزمنية الفاصلة بين بدء الحرب العراقية الإيرانية، زمن وقوع محكيات الرواية، وزمن نشرها. تتصاعد أهمية القضايا التي تعالجها وتتأسس عليها فتتشكل في إضمامة أسئلة تضيء الوجود العراقي بوصفه وجوداً قلقاً، لم يقيض له الاستقرار الواعي لإنتاج تجربة إنسانية/ ثقافية متوازنة، تُطبخ مقدماتها على نيران التحولات المنطقية الهادئة. من هنا، تقدم رواية فلاح رحيم، سردية الإنسان، في مقابل سردية السلطة التي كُتبتْ تحت رعايتها آلاف الأعمال القصصية والروائية في موضوعة الحرب، من دون أن يقيّض لها أن تلتقط صوت الانسان، إن لم يكن الهدف من كتابتها تغييب الانسان وطمر صوته في مواجهة صوت السلطة وآلة قمعها الجهنمية. رواية فلاح رحيم لا تكتفي بسرد محكياتها، ولا تنغلق على رحلة إنسانها الصعبة في وجود شاق، بل تتسع رؤيتها لما حدث وهي تسعى لاستعادته والوقوف على تفصيلاته.

(*) مدونة نشرها الكاتب العراقي لؤي حمزة عباس في صفحته الفايسبوكية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها