الجمعة 2020/05/29

آخر تحديث: 13:12 (بيروت)

الطوطم العَوني

الجمعة 2020/05/29
الطوطم العَوني
increase حجم الخط decrease
الإشاعات التي سرت مؤخراً حول وفاة ميشال عون، والتي نفتها رئاسة الجمهورية واشتغل على دحضها زواره من الشخصيات العونية بالصور والفيديوهات "الحية"، كشفت جانباً آخر من "الشخصية العونية" إلى جانب بحثها الدائم عن أب تقمصه عون فعلاً وجعله شعار عهده، "بيّ الكل". 


وإذا كان معظم زعماء الطوائف اللبنانية، آباءَ لمريديهم، بشكل أو بآخر، من حسن نصر الله إلى سعد الحريري ووليد جنبلاط ونبيه بري..، فإن عون يتمايز بخاصية إضافية، اشترك مع أنصاره المخلصين في تركيبها كصورة له ومعنى لتياره. الطوطم، بالمعنيَين القَبلي الأنتروبولجي، والفرويدي، على حد سواء.

والطوطم، في تاريخ القبائل "البدائية"، قد يكون موضوعاً من مواضيع الطبيعة (النهر، البحر، الشمس، المطر..)، أو كائناً حياً (الحيوان، النبات، الطَّير..) تتخذه العشيرة أو العائلة الممتدة رمزاً لها. وقد تعرّف العشيرة صلات القربى بين أبنائها بالإحالة إلى هذا الشيء أو الكائن، والذي يمسي رمزاً أو روحاً تمثّل مجموعة من الناس وتحرسها. يكفي أن تؤمن بأن هذه الشجرة أو ذلك الفيل يسهر على خيرك ويذود عنك. الأمر يتجاوز العبادة. تُوكَل إلى الطوطم مهمة تعريف الذات والهوية والجماعة، ثم صون هذا التعريف. حتى إن بعض القبائل كانت تمنع الزيجات بين أبنائها "المتحدرين" من الطوطم نفسه، وكأن هذه الزيجات تعني سفاح القربى. فما تصنعه العقول والأيدي، يبتلع في بطنه البيولوجيا والأبوة الرمزية، ويزاود عليهما.

البيولوجيا محكومة بقوانين الطبيعة، تنظم ذاتها بذاتها. الرب لا يحتاجنا، بل هو حاجتنا المخفية في سماواته. أما الطوطم، فعَصَب الضرورة المتخيلة، علينا أن نبقيه لنبقى، وقد وازى سيغموند فرويد بينه وبين سلوكيات الهوس والأوهام والفوبيا. المؤمن يعبد إلهاً أقوى منه، منفصلاً عنه. فيما الطوطم هو القوة التي تصنعها مجموعة بشرية كتجسيد لحاجتها إلى تلك القوة، والتي تشعر بامتلاكها لحظة اكتماله وحيازته، فتوظفها لحماية وجودها، ووجودها دوماً "مُهدد". في كتابه "الطوطم والتابو"، ربط فرويد بين تلك العادات القديمة، والتي لأرضيّتها وقوتها البسيطة تبدو أكثر إثارة للاهتمام من حكايات اختراع الآلهة، وبين السياقات التي يفكّر ويتحرّك ضمنها العصابيّون.

والآن، يُقال للشخصية العونية إن إشاعة تسري بموت الطوطم. فيُجنّ جنون العصاب، ويُبدع من ردود الأفعال ما يدهش. آخِرها (وليس أقلها ولن تكون خاتمتها)، حملة تمنّي الموت لإعلامية كتبت متحسّرة، في السياسة، "لن نكون هنا لنشيّعك.. لقد قتلتنا جميعاً قبل أن تموت"، إضافة إلى حملة في اتجاه ربّ عملها لإفقادها وظيفتها.

في شروط الحياة السياسية اللبنانية، لا يبدو متاحاً شعار "إلى الأبد"، لكن الشخصية العونية تشتهيه، تحسد عليه دول الجوار. وهكذا، فإن أفضل المتاح هو عيش الطوطم أطولَ أبدٍ ممكن، وأي تعليق من وحي الإشاعة، أو حتى من لدن قانون الأرض بأن "كل من عليها فانٍ"، هو محاولة لقتل الشخصية العونية نفسها، بل هو قتل رمزي محقق، فكيف تسكت عليه؟ لا بدّ من الاقتصاص. وبعده، أقلّ الإيمان، أن تصلّي، وبكل الجدية التي اقترحتها تغريدة أحد العونيين، أن يحسم الله من عمر كل عونيّ، خمس دقائق يضيفها إلى عمر ميشال عون. هذا هو السحر. هذه تعويذة لدرء الإشاعة واحتمالاتها. أما الحب، فإنه، في حالات الدفاع، يلتهب إلى درجة الولع فالدلع، وتُرى أدبياته في الصفحات الاجتماعية العونية غزلاً بأجزاء حميمة من جسد المحبوب، تماماً كما تدلل أمّ طفلها. فالطوطم وليد جماعته وأبوها، ربّها وروحها، معشوقها ومخلوقها. صرنا في ما بعد بعد السّفاح.

لا يهم إن كان الرئيس يحكم ويَقود بالفعل، أم يتلبّس جبران باسيل روحَه. فرويد يحكي عن "الروحانية والسحر والفِكر كلّي القدرة". فالروحانية، أو مذهب حيوية المادة لدى بعض القبائل، هي الإيمان بأن الأشياء والأماكن والحيوانات والنباتات، وأحياناً حتى الكلمات، تمتلك جوهراً روحانياً يميز كلاً منها، فكلّها حيوي. الطوطم إذاً حيّ بقدر ما نريده كذلك، يوزّع من ذاته وبأسه على جماعته أو مَن يصطفي منها. وطريقة التفكير الروحانية موسومة بالأفكار كلية القدرة، وبإسقاط الاعتمالات العقلية الداخلية، العميقة في الوعي واللاوعي، على العالم الخارجي. هو إسقاط العُصابي لنقائصه، وذنوبه وشهواته المكبوتة، على من حوله. وهذا الواقع المتخيل لا بد أن يختلط بهلوسة ورُهاب وتطرف. هكذا، سمعنا ذات مرة، استنكار حرائق الصيف في مناطق المسيحيين. وهكذا تسود مقولة "ما خلّونا نشتغل" في الكهرباء، ولا في مكافحة الفساد والهدر اللذين أوصلا البلد إلى الإفلاس. "حقوقنا مهدورة" دوماً وأبداً، يريدون قضمها، يريدون فناءنا، يريدون الاستحواذ. والعفو العام، إن لم ينسحب على من تريدهم الشخصية العونية، أي العملاء الفارين إلى إسرائيل، فهو "جريمة جديدة في حق الوطن"، ومن الوطن خرج عامر فاخوري إلى أميركا آمناً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها