الأربعاء 2020/05/27

آخر تحديث: 12:45 (بيروت)

سينما الوباء (6): صُور من زمن آخر

الأربعاء 2020/05/27
increase حجم الخط decrease
جاء عيد الفطر، كما عيد القيامة من قبله، يخيّم على أجوائه الوباء. إغلاق شبه كامل في غالبية الدول العربية، تقييدات مشدَّدة على السفر والتنقل بين المدن، لا صلوات عيد ولا تجمعات. ما كان عادياً استحال ضرباً من الخطر، فيما أضحت إيماءات المودة والقرب أفعالاً يُنصح بالتوقف عن ارتكابها. كل عناق، كل سلام، كل قُبلة، محل اشتباه. غيّر الوباءُ العالمَ، وصار لزاماً علينا، بالتبعية، نحن سكّان هذا العالم تغيير أنماط سلوكنا الاجتماعي.
 
في البداية، عندما اعتقد الجميع أن القيود المتخذة في الصين للحدّ من انتشار الوباء أمرٌ لا يمكن تصوّر حدوثه في البلدان المتقدمة والديموقراطيات العتيدة، كانت هناك أصوات خافتة تقول إن العالم سيكون مكاناً مختلفاً بعد كورونا. ثم بعد انتشار الوباء عالمياً، وتوالي سقوط الضحايا، وبدء تطبيق قرارات مماثلة في أنحاء العالم؛ كان شيء واحد على الأقل واضحاً: العالم لا يمرّ بأزمة بسيطة عابرة وحسب، وعلينا أن نعتاد على العادي الجديد. ستكون الوجوه المحجَّبة روتيننا اليومي، ولفترة طويلة مقبلة، سيستمر الخوف من ركوب كل مترو أنفاق، وكل وسيلة نقل جماعي، وإذا تصوَّر أحدهم قبل شهرين أنه في نهاية أيار/مايو سنكون قادرين على القيام بجميع مهامنا المؤجلة في مراكز المدينة مرة أخرى كالمعتاد، فمن الواضح الآن أنه لن تكون هناك عودة إلى يوم عادي من تلك الموجودة في زمن يبدو الآن بعيداً، رغم أن مدة إقامة الوباء بيننا لا تتجاوز خمسة شهور.

الذهاب إلى السينما والحفلات الموسيقية والخروج للتسوّق معاً: هذا لن يحدث لفترة طويلة. مرحلة ما بعد كورونا لا تزال بعيدة جداً. وقد لا تعود بعض الأشياء مرة أخرى أبداً، لأنه بحلول ذلك الوقت، عودة العادي القديم، لن تكون جزءاً من عاداتنا وسيتعيّن عليها إفساح المجال لعادات جديدة.

إيماءات خطرة
من بين الأشياء الآخذة في شغل مساحة أكبر الآن، تبرز خدمات البث عبر الإنترنت التي شهدت أسهمها ازدهاراً قياسياً بفعل إجراءات العزل والإغلاق. هل سيعود روّاد السينما إلى القاعات الآن بعد جلوسهم على الأريكة شهوراً قابلة للزيادة؟ لا أحد يعلم. ما زالت الأفلام والسلاسل التلفزيونية المنجزة من قبل كورونا، تعرض في الانترنت بشكل أسرع من المخطط له، لكن هناك شللاً شبه كامل في عمليات تصوير أي محتوى جديد في كل مكان، وهذا يعني أن المشاهدين يأكلون من الصحن نفسه مراراً وتكراراً. كل شيء في هذا الوعاء السمعي-بصري من عالم العام الماضي، ومهما كان عادينا الجديد، فكل شيء من زمن ما قبل الوباء يبدو غريباً بالفعل.


بالمرورعبر ولوائح وترشيحات المشاهدة غب المنصّات المختلفة، يبدو كل شيء خفيفاً على نحو غريب، سواء كان فيلماً كوميدياً أو تاريخياً أو دراما اجتماعية. كل شيء يفتقر إلى الإلحاح والضرورة، فما يأتي من "الما قبل" هو في جوهره هروب للخلف، لاختبار العادي القديم. قبل ذلك، أي في بداية شهر مارس، كانت الأفلام القديمة فقط هي الشائع وصفها بأنها شيء من الماضي، لكن حتى أحدث الأفلام التي صدرت في دور السينما قبل فترة وجيزة من الحجر الصحي، وتأخذ دورها الآن قبل الأوان في منصّات البث الإنترنتي، تبدو من زمن آخر. الصور الوحيدة التي تعكس الحاضر هي تلك التي تظهر في نشرات الأخبار.

هذا يشحن الإيماءات والصور والتفاعلات البشرية بمعنى جديد. فجأة تبدو الحشود المصطفة على جانبي حلبة السباق في فيلم "لومان 66" مهددة بالانقراض في الوضع الجديد، فهم يقفون بالقرب من بعضهم البعض على نحو ممنوع حالياً. في فيلم آخر، يشرب روّاد الحانة أكواب البيرة بلا مبالاة: كيف غُسلت تلك الأكواب؟ وكم يداً لمستها؟ في فاصل إعلاني: تتجمّع شلة أصدقاء في صالة البيت ويقضم أحدهم قطعة من ساندويتش زميله. في فيلم آخر، يجتمع أصدقاء لتناول العشاء في بيت أحدهم، يحيّون بعضهم البعض بالقبلات والعناق قبل أن يجلسوا متلاصقين على الطاولة ويستمرّوا في التصرّف بحميمية تفضي إلى مزيد من الملامسات.

السؤال هنا يفرض نفسه: هل سيكون هذا هو الحال مرة أخرى، أم ستصبح البشرية، في غضون سنة، معتادة على مسافة مباعدة تُزاح فيها اللمسات لتدخل إلى نطاق خاص وحميمي في أضيق الظروف ومحصور على قلة نادرة من الأشخاص؟

كيف نعتاد بسرعة على معانٍ جديدة؟
في علم النفس هناك نقاش حول ما إذا كانت المعرفة تغيِّرُ الإدراك، ما إذا كان شخصان يريان بالفعل الشيء نفسه في مواجهة شيء وحيد، أو ما إذا كانت معرفتهما المستجدة بشيء تُغيِّر وعيهما بما يريانه. هل الإدراك المختلف مسألة انتباه فقط؟ توجيه الانتباه تقنية شائعة في السينما، فكيفية شعور المرء بما يراه تتغيّر بمرور الوقت، وعادات الرؤية نفسها تتغير باستمرار. في بعض الحالات، يتم العمل على تحسين الإدراك وصقل حدّته. كانت الخدع التقنية البصرية في أول أفلام سلسلة "جوراسيك بارك" رائدة في وقتها التسعيناتي، لكنك عندما تراها مرة أخرى اليوم، تبدو الديناصورات مسطحة بشكل كوميدي.

تعتمد الأفلام والمسلسلات، وفقاً للنظرية السيميائية، غالباً في عملها، على شيفرات وعلامات تحدّد ما يعتبره المُشاهد تهديداً أو طمأنينة. مرأى غابة في الليل مخيف، لأننا نعرف، من خبرتنا الواقعية، أنه لا يمكنك رؤية الخطر في الظلام، لقد ورثنا هذا الخوف من أسلافنا. لكن في السينما، عندما تُصوَّر الأشباح والأرواح كأشكال ظلّية شفافة في أردية بيضاء، يفهم الجميع ما هو المقصود، لأن هذا الانعكاس الإدراكي هو ما علّمنا إياه الأدب والسينما في المقام الأول.

يمكن فعل ذلك بالموسيقى أيضاً. هناك نغمات وتسلسلات نغمية يمكنها ضخّ الأدرينالين من تلقاء نفسه، وبالتالي فهي مناسبة خصيصاً لتعزيز المشاهد المروِّعة وتأكيدها. مثلما أصبحت نغمة بعينها رمزاً صوتياً لأي مريض نفسي يحمل سكيناً ويعيش دور أمّه، لأن المشهد الأيقوني من فيلم "سايكو" (1960، ألفريد هيتشكوك)، الذي دشّن تلك العلامة، دخل إلى المعرفة السينمائية العامة واقتُبس آلاف المرات.
يبدو أن هناك تحولاً في إدراكنا للعلامات في الوقت الحالي، فالأشياء تكتسب معنى مختلفاً، وتبدو المشاهد العادية تماماً، فجأة، كأنها خارجة من فيلم رعب. الصور من التظاهرات التي جرت الأسبوع الماضي من مواطنين غاضبين على إجراءات الإغلاق في البرازيل وألمانيا، هي مثال جيد على ذلك: فهي تُظهر أشخاصاً مندمجين في حشدٍ لا يتبع أي قواعد وقائية لإبعاد الخطر الكوروني: لا كمّامات، لا مسافات، احتكاك وتلامس، فضلاً عن إيمان عميق بنظريات المؤامرة وراء ظهور فيروس كورونا. الشعور بالانزعاج والخوف هو ما ساد دواخل الكثيرين ممن شاهدوا تلك الصور في نشرات الأخبار، رغم أن كل ما نراه فعلاً هو أناس متحدون على مطلب واحد. لكننا نعلم أن هؤلاء الناس يخاطرون بحياتهم وحياة غيرهم، بصرف النظر عمّا يؤمنون به من ضلالات تقودهم لسفك دماء كل منطق وعقل.

الكمّامة/القناع في حد ذاته صورة تُعاد الآن صياغتها والألفة معها، فقبل بضعة أسابيع فقط كان الشيء نفسه علامة تهديد. في أفلام الرعب والجريمة، يعمل القناع/الكمامة كعلامة للخوف، لأنه يحجب رؤية وتحديد هوية من يرتديه، وبالمثل مَن لا يحتاج إلى قناع، لن يضمر شرّاً. الحالة الأخيرة تنطبق على آكل لحوم البشر هانيبال ليكتر من فيلم "صمت الحملان" (1993، جوناثان ديم)، الذي من المفترض أن يمنعه قناع صلب يحيط بفمه وأنفه من العضّ أثناء وجوده في السجن. قبل فترة وجيزة، كان قناع الوجه لا يزال مثار شبهة، لكن فجأة استحالت قطعة قماش تغطي الوجه، علامة تخلق شعوراً بالأمان، رغم أن العِلم لم يجزم بعد بمدى فاعليتها.

المرجع الأميركي
ليس من قبيل المصادفة أن معظم أمثلة هذه العلامات من السينما الأميركية، فقد أمدّتنا صناعة الترفيه في الولايات المتحدة بمراجعنا البصرية لعقود. وهذا له علاقة أساسية بحقيقة أن العالم اليوم يبدو أصغر قليلاً، كمكان تربط بين سكّانه، خبرة بصرية جمعية أميركية المرجع غالباً. لأنهم جميعاً رأوا كيف يولد الأبطال الأميركيون، وحلموا أن يصيروا مثلهم، ويعرف معظمهم عن ملامح نيويورك أكثر مما يعرفون عن أقرب مدينة محلية في بلدهم، بفضل كمّ هائل من الأفلام والمسلسلات التي آلفت بين المشاهدين والمدينة التي أصبحت الآن مركز الوباء العالمي.

هذا الاشتراك عالمي الطابع-أميركي المرجع، له تأثير كبير في حقيقة أن الناس،في أنحاء العالم الأربع، يمكنهم الاتفاق على ما هو عصري أو مضحك وما يجب أن يكون عليه مستوى المعيشة اللائق. وهكذا، فالسينما تشكِّل أفكارنا عن الخطأ والصواب، والإنسانية والوحشية. الأمر الأكثر إزعاجاً في هذا الشأن، هو أن الولايات المتحدة الأميركية، البلد الذي صُدِّرت منه كل هذه المفاهيم والمعايير الأخلاقية إلى رؤوسنا، لا تلبّيها ولا تعمل بها، وكلما ازداد وضوح تلك الحقيقة في الواقع، كلما تسارع زحف التشكّيك في أصالة تلك الصور. هيمنة النجوم الأميركيين، وسطوة السينما الأميركية وتفوقها التقني، وتأثيرات الكوميديات الأنيقة، وإرث
الميوزيكالز الزاهرة... كلّها تصبح على المحكّ.


هذا العالم المنظَّم، الوافر، المُهندَس؛ لم يعد في إمكان المرء الإيمان به حقاً، في مواجهة المقابر الجماعية في نيويورك بفعل الوباء، ومنظر الطواقم الطبية بسترات واقية مصنوعة من أكياس القمامة، وطوابير لا نهاية لها لأشخاص ينتظرون الحصول على وجبة طعام، ورئيس أخرق يطيح كل منطق ومستعد للتضحية بالأرواح في سبيل إعادة تشغيل ماكينة التصنيع. الصورة التي رسمتها السينما عن أميركا، كانت صرحاً من خيال، وهذه الصورة في طور تدميرها حالياً. بعد عامين - بافتراض تعافي صناعة السينما والتلفزيون حينها – كيف ستظهر أصداء ما تعيشه نيويورك الآن، في صورها المصدَّرة للعالم، وكيف ستروى حكايات الضحايا ممن لا أسماء لهم؟ هذا أمر ربما نكتشفه بعد حين.

كل شيء يتغيّر
في مرحلة ما، سيجد الحاضر الجديد طريقه إلى الصُّور، وفي مرحلة ما سيبدو غريباً أيضاً. بغض النظر عن حالة الطوارئ الحالية، لن يعيد العالم اختراع نفسه من جديد، بل سيتكيَّف مع الوضع. في المناقشات، الجادة والهرائية، التي سمعها المرء في الأسابيع الماضية حول ضرورة الكمامة/القناع، عرفنا أنه في دول شرق آسيا من المعتاد ببساطة أن يرتدي الجميع قناعاً للوجه، حتى إذا كانت لديهم نزلة برد بسيطة. لكن في المقابل، لم يكن وارداً تطبيق ذلك في أوروبا وأميركا التي ما زال ضجيج الأمس فيها، حول حظر ارتداء النقاب في الأماكن العامة، مسموعة أصداؤه في الشوارع وصفحات الجرائد.

مع ذلك، تتيح السينما العثور على جماهير غربية ترتدي الكمّامات في الأماكن العامة في زمنٍ مشابه: في الفيلم الصامت "أرجل أبي الطويلة" (1918، مارشال نيلان)، تلعب ماري بيكفورد دور فتاة صغيرة أودعت دار الأيتام، وعندما يُسمح لها أخيراً بالمغادرة لحياة جديدة، تأخذ القطار. كان وباء الإنفلونزا (المعروف خطأ بالإنفلونزا الإسبانية) مستعراً في أميركا وقتذاك، وعندما عطست ماري بيكفورد في محطة القطار، تكهرب الحشد من حولها على الرصيف. وكان الجميع يغطّي وجهه بالكمّامات.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها