الأربعاء 2020/05/27

آخر تحديث: 13:07 (بيروت)

أنيس الرافعي: أرخبيل الفزع... يرقات الغرفة الزرقاء

الأربعاء 2020/05/27
أنيس الرافعي: أرخبيل الفزع... يرقات الغرفة الزرقاء
أنيس الرافعي
increase حجم الخط decrease
♢(إلى فدوى البشيري)
انقضت قرابة السنة على رفع حالة الحجر الصحيّ وعودة الحياة العامّة إلى إيقاعها الطبيعيّ السابق، غير أني لم أغادر بعد كنف شقّتي الصغيرة المقابلة لمحطّة القطار. نعم، صدقوني، لقد ولّت الجائحة "الكوفيديّة" إلى غير رجعة، بعد اكتشاف لقاح ناجع ضدّها من لدن أحد المختبرات الألمانيّة الشهيرة، بيد أنّي لم أبارح بعد النطاق الضيّق لسريري. بالتأكيد، ليس بسبب مرض مزمن ما ألّم بي لا قدّر الله، أو امتناع إراديّ مني عن التواصل مع معارفي والرجوع إلى عاداتي القديمة، لكن بكلّ صراحة لأنّي لم أعد قادراً البتّة على القيام بمثل هذه الأمور الفجّة، التي تبدو لي الآن ضرباً من المستحيل وطقوساً بائدة تنتمي إلى ماض سحيق. 
وكي أوضح لكم ما حدث داخل روحي وجسدي بنوع من التفصيل الشافي للغليل، دعوني أخبركم بأنّ القناعة ترسّخت لديّ، بداية، بعدم جدوى الانكفاء مرّة أخرى إلى روتين الحياة الماضيّة، التي كانت عبارة عن ممارسات محتشدة بالهراء والحماقة والباطل والتّكرار، الخليقة بالتخلّص منها جميعاً الآن بعد حقبة إزالة الحظر بصورة دائمة. ثمّ في ما بعد، ومن فرط إدماني على مراقبة القطارات الفارغة من المسافرين، الذاهبة الآيبة، بواسطة المنظار المقرّب من نافذة الشقّة، كنت أسقط في حبائل النعاس لساعات طويلة خلال اليوم داخل غرفة نومي المطليّة بالصّباغة الزرقاء. وفي تلك الأثناء، أخذت أحلم. أحلم بلا هوادة طيلة نهار بأكمله، من شروق الشمس حتّى غروبها، أنّي نائم داخل مغارة جوفيّة متداخلة الحجيرات. أحلم بعينين مفتوحتين أنّي أركب قارباً صغيراً من المطّاط، حاملا بيدي شمعة وضّاحة، ثمّ أحدّق بدهشة إلى اليرقات المضيئة، التي كانت تتوهّج في السقف باللّون الأزرق الميّال إلى الخضرة وسط الحجر الجيريّ. عاودت في غضون كلّ حلم زياراتي المواظبة للمغارة، متجوّلاً في متاهاتها، ومتوغّلاً في كلّ مرّة في مسافة أبعد صوب حجيراتها المدوّخة، التي بدأت ترشني فتحات سقوفها ومغازل يرقاتها البرّاقة بسوائل لعابيّة لزجة، فكنت عندما أستيقظ ألفيها على شكل شرانق حريريّة ناعمة تلتفّ حول بعض أطراف بدني.
كما يجدر بي أن أنبئكم أنّه في إبّان سياحتي داخل تلك المغارة الغريبة، كنت أشاهد على جدرانها جميع ما فاتني في الخارج. أقصد، خارج حياتي السابقة في الواقع الفعليّ. إذ هي أيضا كانت مغارة لأصداء الدنيا كما أصبحت في غيابي. لأصداء العالم مثلما أضحى بعد الجائحة، والذي توقّفت نهائيّا عن زيارته بمحض إرادتي. بل، أحيانا كنت أعاين طيف نفسي سائراً بين الناس وسط تلك الأصداء على أحد الجدران، لكنّي لم أكن أصدّق نفسي على الإطلاق. لن أخفيكم سرّا، كنت أشتاق بين الفينة والأخرى لترك غرفة نومي الزرقاء، ثمّ الابتعاد لبضعة أمتار عن شقّتي، على الأقلّ لرؤية حركيّة القطارات العامرة بالمسافرين بشكل أوضح، غير أنّ اليرقات كانت تحوك حول أطرافي خيوطها الحريريّة الخشنة، وتعيدني فوراً إلى مملكة السبات!
21/05/2020

■ ليلة الدبّور القاتل
♢( إلى محمد عنيبة الحمري)

تفشّى وباء " كورونا"، و أزهق حياة الملايين من الناس الأبرياء، بعد ارتفاع معدّلات الإماتة على نحو قياسيّ. ومن بقيّ منا على قيد الحياة في ما يشبه المعجزة، تمّ وضعه بالقوّة داخل معسكرات احتجاز معقّمة، تخضع لإجراءات طوق صحّيّ صارمة. حشرنا كالدجاج البيّاض داخل معازل خشبيّة ضخمة شبيهة بمستودعات التخزين، بعدما وُشمت سواعدنا بأرقام ترتيبيّة تثبت بأننا كنا من غير المخالطين، أو بمنأى عن الأشخاص المعرّضين. كما زوّدنا بأزياء موحّدة و مخطّطة بالأبيض والأسود كأحمرة الزّرد الوحشيّة. لم يكن يسمح لنا بالخروج مطلقاً، أو النظر عبر درفتي النافذة، التي كانت مصبوغة باللّون الأسود القاتم، مثلما لو أنّ اللّيل التصق بزجاجها وامتنع عن المغادرة. جلّ وقتنا كنا نقضيه في الداخل، نعمل سحابة اليوم في خياطة البلوزات الطبيّة، وتصنيع القفازات، وتركيب عناصر واقيات الوجه السيليكونيّة، وتعبئة الأقنعة القماشيّة النقيّة داخل الأكياس البلاستيكيّة، تحت المراقبة المشدّدة ﻠ"كابوات" غلاظ، قامت الإدارة بتعيينهم كأفراد من "قوّة الشرطة الرفيقة"، في إطار ما سمّوه "التسيير الذاتيّ للناجين من الفيروس". البعض منا كذلك كانت تجرى على أجسادهم، من دون إذعان منهم، اختبارات غامضة للتجنير أو للتمصيل المضادّ، قيل لنا إنّها من أجل التمنيع بالفيروس الموهن، أو بغاية تقوية الجهاز المناعيّ بواسطة دماء الأشخاص الذين تمّ شفاؤهم من العدوى. وعقب أسابيع على إقامتنا هناك، أخذت تظهر بين صفوفنا أولى حالات الانتحار شنقاً، ولم نكن نعرف على وجه الدّقّة سبب إقدام أصحابها على وضع حدّ لحيواتهم بهذه الطريقة العنيفة وغير المستساغة.
لكن تناهى إلى مسامعنا، من قبل بعض النزلاء القدامى، أنهم ربّما قاموا بقتل أنفسهم، بسبب ارتعابهم من وقوع الدور عليهم ليكونوا قرباناً بشريّاً للدبّور المتوحّش السفّاك. وبالفعل تيقّنت من صحّة هذا الاحتمال لما وجدت فرجة ممحوّة في واحدة من النوافذ، إذ قدم ذات ليلة مظلمة قائد أفراد الشرطة الرفيقة، ثمّ نادى على اسم واحد منا. وحينما أخرج الشخص المختار إلى رحاب الساحة المنارة بكشّاف ضوئيّ قويّ، قاموا بربط جسده النحيل إلى العمود المعدنيّ، الذي يوجد في أعلاه العلم الوطنيّ المزوّق بالأحمر والنجمة الخماسيّة الخضراء، وبعد دقائق قليلة انقضّ زنبار عملاق الحجم بسّنه الأسود الحادّ على رقبة الضحيّة، لاذعا إيّاه بالسمّ الزعاف حتّى الموت، قبل أن يجزّ بالسّن القاطع ذاته، عنقه بالكامل، ثمّ يحمل رأسه النازف في سرعة البرق بين مخالبه الكبيرة، طائراً به إلى عشّه القريب فوق المعزل الخشبيّ المواجه لنا. تكرّر هذا المشهد الرهيب أمام نظري المتلصّص عشرات المرّات، بل مئات المرّات، ولم يعد يفارق كوابيسي كلّما خلدت إلى النوم. صحيح أنّهم كلّفوني بقسم رسائل الموتى، الذين تمّ تقديمهم ضمن طقوس الافتداء للطوطم الجديد القادر على حمايتهم من استشراء الوباء التاجيّ حامل الرقم 19، إلى درجة أنّي كنت أتقمّص أسماءهم وأرواحهم وذكرياتهم وآمالهم، كي أرد على خطاباتهم، بغاية طمأنة ذويهم أنهم مازالوا أحياء، لكنّي أشعر في كلّ سطر أكتبه بالخوف. بخوف شديد أن يحلّ دوري قريباً كي أكون الوجبة المقبلة لهذه الحشرة العملاقة المفترسة، التي قيل عنها في ما مضى إنّها كانت ناقلة حبوب تلقيح الأزهار والصديقة المانحة للحياة!
22/05/2020

■ صيّاد الإشارات اللاسلكيّة
♢(إلى عبد العزيز أمزيان)

يبدأ نهاري في قريتنا الفقيرة النائيّة، المحكومة بالعزل وتقييد حركة الأشخاص طيلة فترة حضانة الوباء، بجولة صباحيّة سرّيّة، أحرص أشدّ الحرص على أن تكون محتاطة من دوريات الدرك الملكيّ المنتشرة في شتّى المداخل والمنافذ الرئيسيّة للدّوار. أطوف خلسة على عشرات المنازل المتناثرة كالبثور في ما يشبه وجه منحدر صخريّ، كي أتسلّم من أصحابها هواتفهم الجوّالة قديمة الطراز، وأجرة خدمة إشارة شبكة الاتصال الضئيلة. أضعها جميعها معلّمة بأسمائهم وأرقامهم المرجعيّة داخل حقيبة ظهر واسعة من القماش الرخيص، ثمّ تنطلق رحلتي الشاقّة في اتجاه الأعلى، بمعيّة كلبي الصغير من فصيلة "بيغل"، الذي كان لا يتوقّف أبداً عن النباح. أقطع بضعة كيلومترات وسط غابة كثيفة صامتة، هي عبارة عن بحر شاسع من الأشجار، يقع على السفح الشماليّ الغربيّ لجبل شاهق، تكوّن جيولوجيّاً من براكين صلبة تحتوي على مسامات قادرة على سحب كافّة الأصوات. ومباشرة عقب اجتيازي عقبة الغابة، التي تحوّلت خلال السنوات الأخيرة إلى محميّة طبيعيّة كنت أشرع في تسلّق الهضبة ميمّماً وجهي شطر القمّة. أتسلّقها بعناء كبير، رغم اشتغالي الأصلي كدليل سياحيّ متمرّس لإرشاد السّيّاح، ومعرفتي الجيّدة بكافّة المسالك الوعرة. أصل بعد مرور ما يناهز ثلاث ساعات، لاهثاً ومنهكاً إلى هناك، حيث كنت أبسط حول شجرة صنوبر معمّرة جميع الهواتف الجوّالة الخاصّة بأهل القرية التي حملتها معي، آملاً أن يتمكّن أيّ منها من التقاط أدنى إشارة من إحدى شبكات الاتصال الثلاث العملاقة الموجودة في البلد. أنتظر مصطبراً متأنيّاً طوال اليوم كما يليق بصيّاد محترف للذبذبات اللاسلكيّة، لعلّ وعسى يرنّ هاتف ما، معلناً عن وصول تلك الرسالة النصيّة القصيرة، المخبرة بقبول الدعم الماليّ الشهريّ المستحق للفئات المعوزة المتضررة من تداعيات فيروس "كورونا". على امتداد أيام طويلة لم يرنّ أيّ هاتف، فكنت أعود أدراجي جارّاً أذيال الخيبة والفشل، بل تحتّم عليّ أن أعيد دوراني حول المنازل من أجل إرجاع الهواتف إلى مالكيها، حتّى من دون أن أحصل على أجرتي الزهيدة. 
مرّت أشهر لا عدّ لها و انفرجت العدوى الخبيثة، لكننا لم ندرك ما حصل بمبرّر عدم توافر أجهزة تلفاز أو راديو، وكذا بسبب استمرار محاصرة القرية من لدن قوات الدرك الملكيّ لمسوغ غامض غير مفهوم. الأدهى من هذا كله، أني وافيت ذات يوم شجرة الصنوبر المعمّرة، ثمّ سرعان ما غرقت في نوم عميق من مبلغ التعب، ملفوفاً وسط جلابيتي الدافئة. وحينما استيقظت، على الأرجح بعد تصرّم ساعة زمن، اكتشفت اختفاء كلّ الهواتف الجوّالة التي كانت بعهدتي. لم يترك لي اللّصوص الملاعين سوى حقيبة الظهر، التي حينما فتحتها وجدت بداخلها كلبي الصغير، الذي لا أدري لماذا لم يجشم نفسه عناء إصدار صيحة نباح واحدة!
23/05/2020

■ هواية الرجل – التمساح
♢(إلى يوسف توفيق)

حينما بلغت العاشرة من عمري، ظهرت عليّ أوّل أعراض هذا الداء الهرمونيّ الغريب، الذي زلزل حياتي رأسا على عقب، ودفعني للانقطاع عن النّاس ومغادرة المدرسة نهائيّا. إذ لم أعد أخرج من البيت، بمجرّد ما غزت النفاطات والتهيّجات الاحمراريّة جلد جسدي، الذي تعرّض فيما بعد لجفاف وتقشّر بالغين، بل إنّ قطعا صغيرة منه كانت تنفصل عني، وتسقط على الأرض أمام ناظري، كما لو كنت مجذوما، أو مصابا بالتهاب اللفافة المنتجة للباكتيريا الآكلة للّحم البشريّ. لم تجد الكريمات والغسولات والمستحضرات الطبيّة المجرّبة من لدن والدتي أيّ نفع يذكر، لحالتي المستعصيّة غير القابلة للسيطرة عليها، حسب تشخيص أطباء "الديرماتولوجيا". وفي ما بعد عندما تخطّيت العقد الثاني من حياتي الشقيّة، شرعت بشرتي في التقرّن الحادّ، واتّخذت سيمياء حراشف ثخينة شائكة وداكنة اللّون، إلى درجة اعتقد معها الجميع، أمام تفاقم مرضي يوما إثر آخر، أنّي في طور التحوّل إلى (رجل- سمكة) شبيه بواحد من تماثيل "الأبكالو" السبعة، التي كانت لها السيادة إبّان العصر السومريّ من تاريخ بلاد ما بين النهرين. كانت درجة حرارتي ترتفع بشكل زائد عن المألوف وتكاثر ألمي حدّ عدم انقطاعي عن الصراخ، فكان أن اقترح أحد أعمامي، على سبيل السخرية مني، وضعي داخل "أكواريوم". وبالفعل، أقدم والدي على تنفيذ الفكرة، لتفاجئ العائلة بتلطّف نسيج جلدي وتخفّف وجعي. لكنني في حقيقة الأمر، لم أتحوّل إلى (رجل- سمكة)، وإنّما غدوت في ما بعد حيواناً آخر بعد أن تحجّر جلدي، وانعدمت قدرتي على التعرّق، وامتدّت الحراشف الناتئة إلى كافّة أطرافي. صرت في إطار تطوّر جينيّ غير مسبوق (رجلاً – تمساحاً).
وبما أنّ والدي يشتغل مروّضاً في سيرك، فقد وضعني داخل قفص، ثمّ قدم بي عروضاً في مدن شتّى لاقت حماسة الجمهور وتصفيقه منقطعي النظير، لعلّ أبرزها عرض كسب التحدّي لإزالة إطار سيّارة عالق برقبتي. طبعا، والدي كان يريدني أن أحاكي فكّ التمساح بكلّ شراسة حتّى لا يحصل أيّ متقدم على المكافأة، ولم يكن يهتمّ على الإطلاق بمشاكل التّنفس وعذاب الرقبة، التي أضحيت أعاني منها بسبب ضغط ذلك الإطار المطاطيّ العاتي. توقّفت خلال الشهور الأخيرة عروض السيرك بحجّة ذيوع وباء "كورونا" المتغلّب، فتهاون أفراد أسرتي عن الاهتمام بي. بكلّ صدق، لم أكن أفعل شيئا مشينا بمبعدة عن مراقبة أهلي. كنت فحسب أتخيّل نفسي مثل الإله العدوانيّ العنيف "سوبيك"، الذي قرأت عنه سطورا شيّقة في "موسوعة الميثولوجيا الفرعونيّة". ولما كانت تحين ساعة حظر التنقّل اللّيلي، أخرج متسللّا من البيت، ثمّ أسير في الشوارع والأزقة مثل مخلوق بدائيّ أزليّ يشعّ بالقداسة!
25/05/2020

(*) مدونات قصصية، نشرها القاص المغربي أنيس الرافعي في صفحته الفايسبوكية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها