الجمعة 2020/05/01

آخر تحديث: 13:36 (بيروت)

"أم هارون": تزييف التاريخ

الجمعة 2020/05/01
"أم هارون": تزييف التاريخ
increase حجم الخط decrease
في كتابه "يهود البحرين: مئة عام من الخفاء" (2008) يكتب الباحث البحريني علي الجلاوي، عن فلورا جان، القابلة اليهودية من أصول تركية، والمعروفة باسم "أم جان"، والتي تعلمت التوليد في العراق، وتزوجت هندياً هناك، قبل أن تنتقل معه لتستقر في المنامة في مطلع الأربعينيات لتعمل في مستشفى النعيم، أول مستشفى حكومي في البحرين، ولاحقاً عملت كقابلة متجولة لسنوات، خلالها - يقول الجلاوي- قامت بتوليد نصف نساء البحرين تقريباً. 

ولا يبدو في الأمر الكثير من المبالغة، فالمركز الصحي الحكومي الذي عملت به في "المحرق" (شرقي المنامة)، اعتاد الأهالي على الإشارة إليه باسم "بيت أم جان" أو "مستشفى أم جان" حتى بعدما غادرته المرأة بوقت طويل مطلع الستينات. ويبدو أنها ظلت معروفة بشكل كبير لعقود. ففي العام 1977، مثلاً استضافها التلفزيون البحريني، وتحدثت عن ذكرياتها وعن حياتها الخاصة، وعن ابنها البكر، جان، الذي توفي قبل اللقاء بسنوات. بل وفي العام 2016، كتب أحد القراء، لجريدة "أخبار الخليج"، رسالة بعنوان "ذكرياتي مع أم جان" ونشرتها الجريدة في زاوية "بريد القراء".

لكن الاسم الحقيقي للقابلة، يبدو محل خلاف طفيف. ففي كتاب "من بدايتنا إلى يومنا الحاضر"، تكتب عضو مجلس الشورى البحريني، يهودية الديانة، نانسي إيلي خوضيري، إن الاسم الحقيقي للقابلة الشهيرة هو "فلورا دلفي"، وإنها ولدت بالفعل في تركيا لأبوين تركيين، وعاشت معهم في إيران حيث أتقنت الفارسية، وانتقلت بعدها إلى العراق وتزوجت هندياً مسيحي الديانة، قبل أن تصل أخيراً إلى البحرين في العام 1937. 
مشهورة من حيث لا تدري
لكن المرأة اليهودية الأشهر في تاريخ البحرين الحديث، كما يصفها الكاتب عبد الله المدني، في مقال بجريدة "الأيام"، بعنوان "أم جان: حكاية اليهود في البحرين والخليج" (أغسطس 2016)، لم تكن تتخيل أن تنال كل هذه الشهرة بعد وفاتها، أو أن تتحول، بحسب مقال سابق في الجريدة البحرينية نفسها (يونيو 2008)، للشيخ صلاح الجودر وهو إمام جامع القلالي بالمحرق، إلى رمز لتاريخ من التسامح البحريني الذي جمع كل النساء التي ولّدتهن أم جان وأطفالهن: سنّة وشيعة، ويهوداً ومسيحيين، وعرباً وعجماً، ومواطنين ووافدين. ولا كانت لتتخيل أن تصبح قصة حياتها، موضوعاً لمسلسل كويتي، باسم "أم هارون" يُبث في رمضان هذا العام في قناة "إم بي سي" السعودية، وأن يثير الكثير من الجدل، بوصفه تزييفاً للتاريخ أو دعماً للتطبيع مع إسرائيل. والمرأة التي قطعت حدود ثلاث أو أربع إمبراطوريات عظمى في حياتها، وتنقلت بينها وتحدثت بلغاتها، في عصر كوزموبوليتاني ليس بعيداً كثيراً من حاضرنا، لم تكن لتتصور أن يصبح المسلسل موضوعاً لتعليقات الجيش الإسرائيلي، جيش الدولة التي لم يربطها بها أي شيء في حياتها ولا بعد مماتها، الدولة التي تمثل الضد من كل ما تعنيه سيرتها. ولم تكن بالطبع لتتوقع إن يتم سرد قصتها على إنها كويتية، أو أن يخرج فنان إسرائيلي من أصل عراقي ليقول إن اسمها الحقيقي هو "أم شاؤول" من البصرة، وأن يكون هذا سبباً لفتح جراح قديمة، واندلاع معارك وهمية في وسائل التواصل الاجتماعي، حول الكويتيين الراغبين في سرقة تراث العراق، وحول العراقيين الذي نهبوا الكويت. ولا أن يتقاطع هذا كله مع حملة خليجية لمهاجمة الفلسطينيين، وحملة مضادة للهجوم على الخليجيين. ولم يخطر لأم جان، في أسوأ كوابيسها، أن تقوم بدورها في المسلسل، الفنانة الكويتية، حياة الفهد، هي دون غيرها، الفنانة التي قبل أسابيع دعت حكومة بلدها إلى طرد الوافدين المصابين بالكورونا ورميهم في الصحراء، ولا كانت تتصور أن يكون المسلسل محوراً لتلاسن بين الفنانة الكويتية، ومخرجه المصري محمد العدل، على خلفيات لا تقل عنصرية. 

لكن بعيداً من هذا كله، من الدقة التاريخية للعمل الفني، والحاجة لها من عدمه، وإن كانت "أم هارون" هي "أم جان" أم لا، أو إن كانت "أم شاؤول" قابلة أخرى تماماً من البصرة، أو لو كانت هي نفسها في الكويت أو البحرين أو أي مكان آخر.. وبعيداً من نوايا صناع العمل ومموليه، وكل السياسات التي تقف وراءه، يكشف لنا مسلسل "أم هارون" كيف يتحول التاريخ، في الشاشة الصغيرة، عمداً وخبثاً، أو من دون قصد، إلى مبرر لكل صور الكراهية. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها