السبت 2020/04/25

آخر تحديث: 12:36 (بيروت)

"تراث الاستعلاء": العنصرية المصرية ضمانة لاستمرار النظام

السبت 2020/04/25
"تراث الاستعلاء": العنصرية المصرية ضمانة لاستمرار النظام
increase حجم الخط decrease
في إحدى عظاته الأسبوعية، ألقى البابا شنودة، بابا الإسكندرية وبطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الراحل، نكتة حول ثلاثة من رجال الدين؛ كاهن وشيخ وحاخام، سألهم شخص عن حصة الله في أموالهم، فقال الكاهن إنه سيرسم على الأرض دائرتين، واحدة كبيرة وفي داخلها أخرى أصغر، ثم يلقي بماله لأعلى، فما يقع في الدائرة الكبيرة فمن نصيب الرب، وأما الذي يقع داخل الدائرة الأصغر فيخصه. ثم قال الشيخ إنه سيحسب مقدار الزكاة في ماله ويخرجها. وأما الحاخام فقال إن الله يعلم كل شيء، ويقدر على كل شيء كذلك، لذا فإنه سيلقي بماله للسماء ليأخذ منه الله ما يريد ويترك له الباقي!

كان البابا شنودة، الذي عُرفت عنه خفة الظل، يشير عبر مزحته، عامدًا، أو دون عمد، إلى نقطة الاتفاق الوحيدة التي يجتمع حولها الأقباط والمسلمون: العداء لليهود، وهو عداء يعززه، إضافة إلى الميراث الديني، الصراع العربي الإسرائيلي. لكن الباحث سعيد المصري، يشير في كتابه "تراث الاستعلاء"(*)، إلى أن الفولكلور المصري لم يتضمن في نصوصه ما يؤسس للفجوة الحالية في ما بينهما، نظرًا "لوجود قواسم مشتركة في الثقافة الشعبية المصرية بين المسلمين والمسيحيين في المعتقدات والعادات والتقاليد والأدب الشعبي والفنون الشعبية والثقافة المادية"، وأن حدة الفجوة بين الطرفين حديثة نسبيًا، زادها اتساعها، ما طرأ في السنوات الخمسين الماضية من هيمنة تيارات الإسلام السياسي على المجتمع المصري، لكن تلك الفجوة، حسبما يطرح الكتاب، حتمية، وكانت ستظهر سواء أن عززها التيار الوهابي أم لا، لأن التراث المصري فيه من الاستعلاء واستبعاد الآخر الديني والعرقي والجنسي الكثير، وهو تراث لم يستطع المجتمع المصري تجاوزه لإخفاق مشروع الدولة المدنية منذ محمد علي وحتى اليوم.

يتناول المصري في كتابه "تراث الاستعلاء" بأبعاده الفولكلورية والدينية، وتداعياته الاجتماعية والثقافية والسياسية في الواقع الاجتماعي المصري، مفترضًا ارتباطًا وثيقًا بين التراثين الشعبي والديني، وهي الصلة التي ابتعدت عن رصدها المدرسة المصرية في دراسة التراث، والتي تتغاضى عن تفنيد ما يحمله من خصال تعزز للقبلية وتنبذ الآخر، مسبغة عليه قداسة تشبه تلك المفروضة على التراث الديني، حتى صار وفق أداءاتهم "بمثابة الروح التي لا ينبغي لها أن تفارق جسد هذه الأمة كي تبقى على قيد الحياة".

يُعرّف الباحث الاستعلاء باعتباره: "حالة شعورية أشد وطأة من مجرد التصنيفات الاجتماعية التي يدرك بها البشر العالم. إنها تعبّر عن العنصرية الثقافية في أقصى صورها، وتبرر مشاعر النفور والعداء مع الآخرين"، ويرى أنه يمثل قاسمًا مشتركًا بين التراث الشعبي والتراث الديني، ويستمد قوته من إخفاق مشروع الدولة – الأمة في تحقيق الاندماج الاجتماعي والثقافي لجميع الجماعات والفئات الاجتماعية، لكن الملفت في ما يرصده أستاذ علم الاجتماع في جامعة القاهرة، هو أن الحالة المصرية لا يختص طرف فيها بالخطاب الاستعلائي وحده دون الآخر، وإنما تملك كل جماعة باختلاف درجات هيمنتها خطابًا يضع الأخرى في درجة أدنى. ففي حين يملك الخيال الجمعي صورة سلبية عن الشخص أسود البشرة، يترجمها في عدد من الأمثال والنكات والخطابات اليومية، فإن النوبي بالمثل يملك خطابه الذي يضع فيه غيره من أصحاب البشرة البيضاء في طبقة أدنى منه، فهو مثلاً يطلق عليهم لفظ "جوربتي" بمعنى زارع الأرض، الفلاح أو الغريب أو الأجير، والتي تحمل دلالات تحقيرية بمعنى عديم الأصل، و"متوكي" أي غير النوبي القادم من جهة الشرق نسبة إلى العرب الذين هاجروا من الحجاز واستوطنوا مصر، ويطلق على المسيحي لفظ "أويلما" و"ول" بمعنى الكلب، وهي ألفاظ باستثناء الأخيرة تعزز فرضية أنه صاحب الأرض وغيره من المصريين ما هو إلا مغتصب لحقه.

وهي الصورة التي تقابلها أخرى شبيهة، يحملها البدوي عن نفسه باعتباره صاحب أصل ونسب حر فيما الآخرون "فلاحون" أجراء، في مقابل اعتبار أبناء وادي النيل لكليهما، أي النوبي والبدوي، إما عملاء أو انفصاليين. ولا يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة لعنصري الأمة، كما يحب الإعلام الرسمي وصفهما، فكلاهما يصف الآخر بالأوصاف ذاتها. ففي حين يعتبر المسلم الكنيسة دارًا للموبقات والفواحش، ويرفع شعار "عدوك عدو دينك" محرمًا كل تعامل مع "النصارى"، فإن المثل المسيحي "إيده في الزبدية وبيفكر في الخطية"، يترجم الصورة التي ينظر بها القبطي تجاه المسلم، كخائن ومغتصب لا يصون العشرة ولا العرض.

لكن هذه الصور، على اختلافها، لا تعني تكافؤ الفرص بين هذا الجماعات وبعضها البعض، حيث إن الغلبة في الاستعلاء تصب في صالح الجماعة الأكثر هيمنة، المتمثلة في الذكور المسلمين من أبناء الأقاليم الأغنى، والتي تؤدي هيمنتها "إلى التأثير في الجماعات المهمشة أو الجماعات التي تعبّر عنها الصور النمطية، بحيث تتبنى تلك الجماعات الصور النمطية المزعومة، وتستبطنها تحت وطأة الامتثال الاجتماعي والتوبيخ أو الخوف مما سيحدث من ضرر إذا قاومت تلك الصور النمطية"، وهو ما يظهر واضحًا مثلاً في نتائج مسح تطلعات المرأة، الذي أشار إلى "أن اثنتين من كل خمس مصريات لم تكن لديها حرية إبداء الرأي في بيت أهلها، فضلًا عن ذلك فإن كثيرًا من النساء يبدين إعجاباً بأسلوب تربية أهلهن لهن".

كما يوضحه أيضًا ما رصده شارل عقل في كتابه "غذاء للقبطي" حول من وصفهم بـ"الأقباط المتأسلمين"، وهم: "الأقباط الذين ينظرون لأنفسهم بنظرة تقييم إسلامية. وهم فئة كبيرة مهما بلغت في تشددها الديني المسيحي، إلا أن معايير تقييمهم لأنفسهم، هي معايير إسلامية من الطراز الأول".

ليس المجتمع المصري متجانسًا حسبما يروج الخطاب الرسمي، وإنما مصر "كيان يتسم بقدر من التنوع الاجتماعي والثقافي والعرقي"، ومع ذلك " فإن السياسات الثقافية والتعليمية الرسمية (...) تنكر هذا التنوع الثقافي على الرغم من حدة الصراعات الناشئة عنه، والتي يجري قمعها والتعتيم عليها بصورة مستمرة". لكن استمرار صور التمييز الثقافي الناتج عن فشل مشروع التحول المدني، يعززه أيضًا تماهي الدولة مع ذلك الموروث العنصري وإذكائه، إما عن ضعف في فرض السيطرة، أو لخدمة أجندتها. فمنذ اندلاع الصراع العربي الإسرائيلي، استخدمت الدولة الموروث الشعبي وأعادت إنتاجه لشيطنة اليهود المصريين، حيث كانت تعرض مقاطع من سيرة الظاهر بيبرس وقصة خضرة والسيد البدوي في الموالد بكثرة، خلال حقبة الستينيات والسبعينيات، بعد تحويرها "لكي تعمق من ملامح الصورة القبيحة عن اليهود وتزيد الإحساس بالعداء نحوهم". كذلك فإن النظام المصري يدعم اللجوء أحيانا للقضاء العرفي لحل المنازعات التي تحدث لأسباب عرقية وقبلية، و"هو ما ينتهي بنا في النهاية إلى تقوية العُرف والقبلية في مقابل ضعف هيبة الدولة المدنية".
وفي حين تبدو دعوة سعيد المصري لتنقيح ذلك التراث من حصاد الكراهية فيه، أشبه بمنهج الصوابية السياسية، إلا أنه يضع منهجاً لعملية تطوير التعليم بحيث يستوعب التمثيل العادل لموروث الجماعات المصرية المختلفة، وكذلك منهجاً لعملية تطوير الخطاب الديني، لأن "قيم اللاعدل متضافرة بعمق مع اتجاهات التعصب الديني في المجتمع". لكنها في النهاية تصورات مرهونة بخيار سياسي ربما لا يتبناه نظام يريد أن "يكتسب شرعيته إلى الأبد من الماضي إلى الحاضر عبورًا إلى المستقبل من دون أي قطيعة حقيقية مع الماضي ودون بلوغ مكتمل للحداثة في الوقت ذاته".

(*) صدر كتاب "تراث الاستعلاء بين الفولكلور والمجال الديني" للدكتور سعيد المصري عن دار نشر "بتانة" في القاهرة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها