الخميس 2020/04/02

آخر تحديث: 14:27 (بيروت)

"بس تخلص كورونا"..

الخميس 2020/04/02
"بس تخلص كورونا"..
(غيتي)
increase حجم الخط decrease
ها هو يفعلها مجدداً.. يصفُّ أصدقاءه، جنباً إلى جنب، في السرير. القرد والدب والكلب.. وسائر أفراد الشلّة الملونة ذات الفراء الناعم المغوي بعناق نوم هانئ. لكن "الشباب" ليسوا في أحسن حال. "عندن كورونا"، يعلن الدكتور الصغير. يرصّهم جيداً، يغطّيهم، ويضع راحته على جبين كل منهم، مؤكِّداً المؤكَّد: "حرارتهم كبيرة"، ثم، وبقطّارة وهمية، ينقّط لكل منهم دواءه في فمه المرسوم على ابتسامة لا تكلّ. والطبيب، ابن السنوات الأربع، يعرف جيداً سبب إصابة الرفاق: لم يغسلوا أيديهم جيداً بالماء والصابون، أحدهم عطس قربهم، أو أنهم لمسوا وجوههم بأيديهم المتسخة. لكنهم سرعان ما يتعافون، ويخرجون من المستشفى، ليعاودوا الإصابة في اليوم التالي، فاللعبة باتت روتيناً، تُطعّم بتفاصيل إضافية، مرة تلو الأخرى.

ثلاثة أسابيع مرت على إقفال المدارس. ثلاثة أسابيع كانت كفيلة بتحفيظ صغيري كل شيء عن الكورونا. في البداية، كان يتحمس للخروج في نزهة سريعة على "السكوتر"، نصف ساعة يحرك فيها جسمه، يبذل طاقاته المكبوتة، ويستنشق الهواء المتاح في السجن الأكبر. لكن كثرة التعليمات والتحذيرات التي تصاحب كل مشوار، طغت على فرحة الخروج: لا تلمس باب المصعد، بوابة المبنى، لا تحكّ عينك، افرك يديك بالجِل،.. وبسرعة.. هيا إلى البيت. منذ أيام، يرفض الخروج كلما عرضنا عليه ذلك: "بس في كورونا!"، يخبرنا كأننا لا نعلم. أو كأننا، أبوه وأنا، ثنائي مخبول أو مستهتر أو فاقد للذاكرة، وهو الآن مضطر لأن يكون الناضج المسؤول عن سلامته وسلامتنا معاً. يجادلنا، مُستَفَزاً بعرض الخروج، سائلاً إن كنا نرى أولاداً يمشون في الشارع، أولاد عمرهم أربع سنوات. وحين نجيب بِنعَم، وأننا رأيناهم سوية في الشارع خلال نزهتنا الأخيرة، يستهول الردّ: "مش مزبوط!". ويؤكد أنهم، وإن نزلوا إلى الشارع من قبل، فلن يكرروا ذلك "لأنو في كورونا!".. ويسهب في استخدام مفردات ومرادفات العدوى، الميكروب، والمرض، التي باتت جزءاً من قاموسه اليومي.

أعرف كم يشتاق ابني إلى مدرسته وأصدقائه، إلى الحديقة و"الكاروسيل". إلى جلستنا، أنا وهو، في المقهى كل نهاية أسبوع لتناول "الكريب بالشوكولا"، وإلى مسرح العرائس الأسبوعي الذي كان حديثه يكاد لا يخلو من أسماء أبطاله. لكن سِيَرهم شحّت أخيراً، لمصلحة شخصيات الرسوم المتحركة التي ما عاد في مقدرونا تقنين ساعاتها التلفزيونية كما اعتدنا قبل الأزمة. وأعرف، أو كنتُ أعرف، كم تضيق به شقتنا التي صرنا نتندّر بأن الشيء الوحيد الذي لم يتسلقه فيها بعد هو السقف. لكن قوقعتنا البيتية أصبحت شرنقته التي يخشى مغادرتها، وإن رغب حقاً في ذلك. تناقض الرغبة والخوف، الشغف والتوتر.. باكراً عرَّفه الوباء على تلك الاستعصاءات. أحياناً، أشعر بالذنب لمجرد أن المشهد هذا يحزنني، فيما يعاني الآلاف في المستشفيات، ويموت كثر بسبب هذا الوحش المستجد. أغطّي الذَّنبَ، بالامتنان، لأنني بخير، ومن أحب.. من دون أن ينسحب العرفان على كل ما يثيره واقع البيوت المغلقة من قلق وأسئلة. 

أحسب أن جيلاً كاملاً (أو جيلَين) سيكبر وتكبر معه ملامح هوسٍ ما، هستيريا ربما، بالنظافة وتفادي مسببات الأمراض، حتى البسيطة والعابرة منها، بالنجاة مما لا نرى، بالخلاص. جيل كامل سينمو بداخله خوف مزمن من "الخارج" من "الآخر"، أي فرد، أي آخر. خوف من اللامرئي، جرثومياً كان أم خطابياً، وسيبذل جهداً عظيماً لكسره حينما يكبر، إن وعاه كفاية. لكن، أنّى لي أن أفتي.. أنا التي ما زلت أتصبب عرقاً بارداً وأكابد ضربات قلبي المتسارعة، كلما سمعت دوياً، ولو كانت فراقيع العيد، ولو ظننّا -جيلي وأنا- أننا انتهينا من عقلنة ومواجهة رواسب "تروما" الحرب اللبنانية التي ترعرعنا في كنفها. وتخطر في بالي حكايات الجدات اللواتي لم تقتلهن مجاعة لبنان، خلال الحرب العالمية الأولى، وعُرفن طوال أعمارهن بعدها بـ"البخل" و"الاقتصاد" وهوس التخزين.

أما الآن، هنا واليوم، فكل شيء في نظر طفلي مرهون بـ"بكرا بس تخلص كورونا": اللعبة التي يتحرّق لشرائها، زيارة رفيقته المفضلة، الرحلة لرؤية تيتا وجدو، الكلب/الهر الذي يطالبنا باقتنائه منذ أشهر... "بس تخلص كورونا"، مفتاح المستقبل، بوابة أحلامه الصغيرة. أي عالم ينتظره وينتظرنا؟ وبأي تفاصيل يتراكب في وجدانه الغض؟ وهل سـ"تخلص كورونا" أبداً؟ وبأي ثمن؟.. أتساءل بينما أدرك كم انكمشت دنيانا إلى حدودها الدنيا، وابني يدافع عن مساحته فيها. باتت متكررة هجماته على كومبيوتري المفتوح ليطفئه، علّني أترك "الشغل" وأعود للعب معه: "كل النهار شغل؟!"، يعترض ويحاجج. وكذلك غزواته للزاوية حيث يفرش أبوه أوراقه وأقلامه، ليسرقها وينثرها في كل مكان، ضاحكاً، متسلقاً كتفيه ورأسه، رامياً نظاراته الطبية في فضاء مغلق على لا شيء وكل شيء. نحن الآن اللعب والسلطة، الصداقة والرقابة، الحرية والقفص. مفارقات الأمومة والأبوة تزداد تناقضاً وحدَّة، والطفل يزداد استمتاعاً بها، وحيرة في أمرها. فما كان وقتاً نوعياً نقضيه سوية مساء، أو في العطلات، صار ممطوطاً مترامي الأطراف، تتداخل فيها شروط التربية بأحكام تجزية الوقت، لجعله ينقضي بأي شكل، حتى ينتهي هذا اليوم، وغداً يوم آخر، نحمل همّه غداً.. أو ربما "بكرا بس تخلص كورونا".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها