الخميس 2020/04/16

آخر تحديث: 12:53 (بيروت)

"هذا فراق بيني وبينك"... جيرة الألوهة والدنو من الجنون

الخميس 2020/04/16
increase حجم الخط decrease
"لأنّ صاحبي لا يُسافر وأنا معه مُقيم" (أبو يزيد البسطامي).
في قصة «الآخر»، يختلق خورخي لويس بورخيس، ثرثرة مناميّة مع نفسه. بتاريخ 1972، يحكي أنه كان في نزهة صباحيّة، فحدث أن صادف شخصاً سيتحقّق من كونه، هو الآخر، بورخيس. يخبرنا أن الحادثة وقعت قبل سنوات، لكنه استأثر نسيانها "حتى لا يفقد الصواب". في سهو منا، وهو يخدعنا بالليل والأرق، مستحضراً أمثولة يونانية عن الزمان، يستدرجنا إلى جوف الحكاية. يشرع المتحاوران في الحديث، ويكتشفان تدريجيّاً، متردّدين ومندهشين، أنهما الشخص نفسه. إنّهما يشتركان في كل شيء: الشك والاسم والأصول وإجلال دوستويفسكي وحيل الاختلاق والانتحال. إلاّ أنّهما يفترقان في مسألة فارقة ومفارقة، فكل منهما يؤمن بتواجده في فضاء غير الفضاء وزمن غير الزمن: الأول جالسٌ عند مقعد قبالة نهر تشارلز في كامبردج العام 1969، والثاني على بضعة أمتار من نهر الرّون في جنيڤ، مطلع القرن العشرين.


يُؤبِّدُ بورخيس العزلة في الحلم، ويجرفنا ناحية ضلاله الخاص حتى نرافقه ونشهد عليه، فلا انسحاب من دون قرين ولا غفوة بلا تأويل؛ "وإذا كانت هذه الصبيحة وهذا اللقاء حلمين، فلا بد أن كل واحد منا يخال نفسه الحالم (...) في نهاية المطاف، عندما نتذكر، لا يمكن أن نتواجد مع غير أنفسنا". هكذا يقنع بورخيس أناه الأخرى بمواصلة الهذيان. كأننا أمام مشهد لقاء المكتبيّ المتقاعد مع بائع الأناجيل في «كتاب الرّمل»، غير أن الغرفة هنا هي الحلم ذاته، والهند هي سويسرا أو أميركا، وسحر الأبجدية هو لمعان الكريستال في النهر المتجمّد. بعد أن يطول الكلام ويتشعّب، إلى أن يصير مستحيلاً، يستذكر الكهل البصير حكاية الرجل الذي عبر إلى الجنة في منامه، فأعطوه وردة كدليل على عبوره، وعندما استيقظ كانت الوردة بين يديه. يتفق المتحاوران على موعد في اليوم التالي، لدحض الشكوك، لكن أحداً منهما لا يعود. 

كعادته، مُخلصاً لسفسطته المضلّلة والمُلغزة، لا يتخلّص بورخيس منّا، إلاّ وقد استنزف كل إمكانات سكينتنا، ليرتاح هو. لا يقول الحق أبداً. يقول مُدّعِياً إيجادَ مفتاح اللغز: "لقد كان اللقاء حقيقياً، لكن الآخر كان يثرثر معي في الحلم، وذلك سبب نسيانه لي، أمّا أنا فقد كلّمته في اليقظة وهذا ما يجعل ذكراه تؤرقني حتى الآن". إنّ عزلة بورخيس متوهّمة، ومشوّشة حتى، فهو حارس المتاهات والمرايا، ولم يكن يوماً مارد الأعمدة والأبراج، يستنجد بها حِداداً على فشله الشِّعريّ، والجدير أن نحلم معه لا أن ندخل خلوته. فماذا لو كان نهر تشارلز هو الدانوب في الحكاية؟ هل كان الآخر ليرجع إلى الحلم، لو أنّ قصيدة والت ويتمان عن البحر كانت هي نهاية هولدرلين السعيدة في برج توبينغن؟


قرنان كاملان يكادان يفصلاننا عن رحيل هولدرلين (1770-1843)، أحد أعظم شعراء الألمانية، إلى جانب نوڤاليس وتراكل وتسيلان. وكلما ابتعد عنّا، نحن العالقين في كوابيس الحداثة، كلما انغرزت معاصرته في راهننا. عند جيرة الألوهة، لا (بـ)جوار الإله، تتجذر عزلة هولدرلين وتربو، تنمو داخل الواحد المغاير لذاته (هرقليطس)، فتصير موضوع استحالة على اللاهوت وشرائعه، على الأدب واستراتيجياته، وعلى الفرجة واستعراضها. لقد أمضى الشاعر نهاية حياته، التي عادلت نصفها، في بُرجِ نجّار. لم يحلم بذلك. ستٌّ وثلاثون سنة من العزلة، سبقتها رحلة أخيرة إلى فرنسا وشهور عصيبة داخل مصحّ عقلي. في بوردو، التي سار إليها على قدميه، مثل نبيّ يُفتّش عن الحق في الخلاء، يكتب هولدرلين: "لكن الناس الآن/ قد رحلوا عند الهنود،/ هناك ناحية الصّوب العاصف،/ على امتداد الكروم، هنا/ حيث تنخفض الدوردون،/ فسيحة مثل البحر، موصولة/ بالغارون الفاتنِ،/ النهرُ، ثم تَمضي. لكن البحر/ يمنع ويعطي الذاكرة،/ وكذلك الحب دأباً يُوثق الأعين،/ ووحدهم الشعراء يُشيّدون ما يبقى". ههنا، يحتمي الشاعر من نفسه بالأطلسي، حيث يصبّ نهر الغارون. تماماً عند اندلاق النبيذ، واشتداد المحيط، يرجع طيف ديوتيما ويسافر القرين السويسري نحو إسبانيا أبداً، فيبقى الشاعر ممزّقاً بين عزلته الأرضية القاتمة وإشراقاته السّماويّة المتهالكة، يشيّد عرشاً على الماء.

عقب عودته إلى موطنه، اجتمع هولدرلين بالمُعارض إسحاق ڤون سنكلير وآخرين، فاتُّهم بالتآمر ضد الأمير، وصار مبحوثاً عنه. يقال إنه خرج مذعوراً، بين زواريب هامبورغ، يصرخ متنكّراً للقناعات الجمهورية التي فتنه بها الفرنسيون. هكذا تفادى الشاعر السجن والتقطه الطبيب أوتنريث في عيادته. نقرأ في كنّاش هامبورغ: "يطيبُ الصّخر للعلف،/ واليابس للشُّرب./ لكن الرّطب للأكل./ أراغبٌ السّكنَ،/ سواءٌ في السلاليم،/ أو حيث ينحدر بيت صغير،/ عند شفير الماء تَوقّفْ./ وما لك إلاّ/ استرجاع نَفَسِك./ أأحدٌ حَمَلَهُ/ من الأعماق حتى النهار،/ عليه يعثر في النوم من جديد./ لأنّ العيون حيث تُحجبُ،/ وموثقة هي الأرجل،/ هنا، ستعثر عليه". تتقلّص الأبيات وتنكمش داخل لغة منقوصة وعاجزة، هكذا ينفجر النّحو باتجاه الألوهة، وكذلك يوثِق الشجن كينونة الشاعر ويضعه على سبل لا تُفضي (Holzwege). مئتان وواحد وثلاثون يوماً قضاها تحت تأثير سِتّ الحُسن (Belladonna) والديجيتوكسين والأفيون والزئبق، وعلى وجهه لجام لم يُسكت صراخ وحوشه المستيقظة. لا علاج. يقول الطبيب: ميت بعد ثلاث سنوات. لكن الإله يقذف به في برج توبينغن، عند النجار وابنته. سبع وثلاثون سنة إضافية. يهذي، يُنكر ذاته، وينسلخ من هولدرلين؛ يسلخ جلده اليوناني، يستعرُّ من الجرمان، ويستعير من روما رنين اسمين يوقّع بهما، سكاردنيلّي وبوناروتّي، كأنه هابطٌ إلى جحيم دانتي مُثقلاً بالضّباب والسّحاب.

أعرض هولدرلين عن الكلام، محترقاً بالحِمم، عند السّفح مع أومبيدوكليس. يكتب في قصائد من النافذة: "غالباً ما يبدو قلب العالم المُغيّمِ، موصداً،/ روح الإنسان مغمورة بالشك، منهكة،/ مجد الطبيعة يأتي لينير نهاراته/ ويستقي من الشك السؤال المعتم القصيّ". إذا فتحنا مع هولدرلين، نحن الاثنان، أنت وأنا، هذه الكُوّة. إذا صرنا يتامى ومحجورين، وصار حَجْرنا مزدوجاً، فماذا سنرى بكل هاته الأعين؟ أكثر مما عجز بورخيس عن معاينته في عتمته المستنيرة في بوسطن؟ سنراه مديراً ظهره إلينا، متكئاً على عصاه. واقفاً نراه على جبلٍ، لا يهُشُّ عنه هوتة الزمان. لا ديونيزوس يصحو، لا المسيح يقوم، ولا يستيقظ موسى من غشيته. سنرى فقط الوحيد مخلّداً في لوحة كاسبر ديفيد فريدريش، المسافر متأمّلاً بحراً من السّحب، تماماً كما هو حال إله هولدرلين المموّه باسبينوزا، العالق بين كانط وفيخته، المتدثّر والمندثر في البرنامج الأقدم للمثالية الألمانية الذي جمعه بشيلينغ وهيغل، قبل ركوب مصعد النهاية السعيدة.


ثمّة، في هذا الصعود والنزول الهولدرلينيّ، ما يُذكّرنا بالناسك السرياني سمعان (389-459) الذي اعتلى صرحاً حَجَريّاً، بلغ عُلوُّه خمس عشرة متراً، ولم ينزل منه. فكلاهما، هولدرلين وسمعان، تنقل بين العمق والعلو، مكانيّا ووجدانيّاً، وكلاهما جرّب انتكاسات الرّوح واتحادها بالطبيعة. تتحدث المصادر عن الرؤيا التي تكرّرت مع سمعان فآرقته: كان يرى نفسه يُقعِّرُ في التراب، يحفر ويحفر، بلا بداية ولا نهاية، حتى جاءه الأمر بتشييد عمود سكنه زهاء تسع وثلاثين سنة. هل يحفر الآدميّ قبره ليحيا؟ ليُعجّل بمجيء ما يرجئ قدومه. يكتب هولدرلين: "...غير قادرين/ السّماويّون على كلّ شيء. لأنهم يبلغون/ مبكراً الهاوية، الفانون. دوالَيْك أهناك منعطف/ مع هؤلاء. طويل هو/ الزّمان، لكن يتبدّى/ الحقيقيّ". لا تحتاج العزلة اعتلاء عمود أو السكن في برج بالضرورة؛ فسمعان يحل بها، وهي تمزّقه لا محالة، ومع ذلك لم يتزحزح سمعان من صخرته.


لزم سمعان عموده لقرون، يشرب الزيت ويدهن شفتيه بالسّمن والعسل، إلى أن جاء المخرج المكسيكي لويس بونويل (1900-1983)، فأقنعه بالهبوط. في المشهد النهائي من فيلم "سمعان الصّحراء" (1965)، يظهر العمود خاوياً، وتباغتنا صورة مقطعية، من داخل طائرة، لبنايات شاهقة وجسور مُعلّقة. هل طار سمعان؟ هل عبر إلى خلاء آخر وترك خلوته في أرض سوريا الدّامية؟ تدخل بنا الكاميرا حفلة صاخبة، في ملهى ليليّ، ويبدو سمعان، في خِرقة الحداثة، حليقاً يجالس الشيطان، ويتقاسم معه الكؤوس والسجائر. يُجيب الرّجيم، مُمَثّلاً في صورة يافعة لعوب، عن تساؤلات سمعان ويُعلّمه ما لم يعلمه فوق العمود: الرّقصة الختامية. فحيثما ينتفي الإله ويحجب وجهه، تتمدّد الفرجة ويتصاعد النباح.

تفترض بعض الروايات إنّ أبا يزيد البسطامي، بعدما بادل خمساً وأربعين حَجَّةً، وعشرة آلاف ختمة، برغيف ألقاه إلى كلب، كان قد التقى سمعان العموديّ وتحدّثا معاً في مسائل الأعداد والأكوان. وإنْ كانت التواريخ تثبت أنّ أبا يزيد لم يعاصرهما، لا سمعان الصغير ولا الكبير، فإنّ هذا اللقاء المفترض يجعلنا أمام عزلتين متناظرتين: فالأول مستغرق في الشك، تائق للوحدة وسائحٌ في الأرض أفقيّاً؛ والثاني يجاهد الشيطان، يتطهّر بالصوم وينشد الجلالة في انتصابها. وإذ إن للشك والشيطان القيمة العددية نفسها في العبرية، فالشيطان هو القرين ذاته حين تغترب الألوهة، أمّا الشك فصاحب الوحيد في تيهه. يكتب البسطامي: "ومن أبو يزيد؟ ومن يعرف أبا يزيد؟ أبو يزيد يطلب أبا يزيد منذ أربعين سنة فما يجده". إنّ العزلة إذن هي أن تصير وحيداً تماماً، صامتاً ووحيداً، عارياً عن أيّ جماعة تَصدُق أو تفسُد، بل متجرّداً مما كنتَ عليه؛ فالحجاب بها عنها (العزلة) يقتضي إيصاد الباب بإحكامٍ قبل النفاذ إلى داخل المغارة.

تستعرض سورة الكهف نموذجاً آخر للعزلة، وذلك من خلال أسطورة الفتية النّائمين. يتعلق الأمر بعزلة جماعية، بحجر منامي آسر للحشد، فقد صار هؤلاء شيوخاً في عزلتهم، ولم يتفطّنوا. لا يحسم المصحف في عددهم، لكنه يحصرهم بين الثلاثة والسبعة، يرافقهم كلب (أيكون كلب أبا يزيد يا ترى؟). هذه العزلة الجماعية ما تلبث أن تؤول إلى عزلة فرديّة بمجرّد استيقاظ النيام. قال قائل منهم كم لبثتم. مع توالي الآيات، تتوقف السورة عن كونها كهفاً بل تصير حُجرة، تصير جنّة فجنّتين، ثم جنوناً توحيدياً لا منطق له. يُجمل المصحف، في الآية الثامنة والسبعين من تلك السورة، نهاية رحلة موسى والخِضر على نحو غامض. هذا فراق بيني وبينك. عندما نحلّل موضوع الخلاف، أي سوء الفهم الذي ننعته هنا بأعذار موسى (الصبي والسفينة والقرية)، نخلص إلى أن الرجل الصالح، الذي يقترف الشر ويقوم بتأويله للخير، ليس سوى قرين؛ ولا يمكن أن يكون الخِضر هذا إلاّ موسى عينه، تائهاً في عزلته الصحراوية. إنّ موسى يقصّ علينا "الرواية العائلية للطفل"، كما يسمّيها فرويد في "موسى والتّوحيد"، أي أنه يسرد سيرته المُضنية قبل تحوّله إلى بطل قومي؛ فعزلته الذاتية تلك هي ما ستتأسس عليه الجماعة الدينية والسياسية، جاعلة منه ومنها تراجيديا شعب مُشتّت، تماماً مثلما فعل جنود ألمانيا وهم يرتّلون قصائد هولدرلين في الصفوف الأمامية خلال الحرب. وكما جعلت الأرثوذوكسية سمعان، قدّيساً رسميّاً، له في التقويم يوم وحفلة، كذلك حجبتِ الصوفية أبا يزيد تحت تخت الجذبة، وعليه غطاء مطّرز وقبة خضراء في بسطام.


في العام 2012، صوّر الفنان الفرنسي نيكولا مولان فيلماً تجريبيّا طويلاً بعنوان «سيدي مخيّر»، ودعاني للعب دور شخصية "سيّدي أيّوب" فيه. كنت وقتها غارقاً في قراءة رواية «القرين» لدوستويفسكي. استوحى مولان القصة من نص تخييلي يكتبه عن جماعة بشرية تعيش شمال المغرب، على البحر المتوسّط، قرب مدينة تطوان على الأرجح. تسكن تلك الجماعة كهوفاً وتتنازع شؤوناً عجائبية (عجائبية لكنها جادّة)، تتراوح بين الميتافيزيقا العائدة والتكنولوجيا المُنقضية، ويأتي أيوب ذاك ليلعب دور الوسيط بين السماء والأرض، ويفضّ النزاعات. اعتقدتُ في البداية أنّ العمل تحيين لأمثولة النبي أيوب في الكتابات المقدّسة، أي إعطاء الكلمة لشاهد صامت استهلك جوار الألوهة في عذاب القول لا في جنون العزلة. لكن سرعان ما تبيّن لي أنني المقصود بالأمر. ومن أكون أثناء هذا التنقل الشبحي غير اسم يؤوب ويؤول توبة متمنّعة؟ بعدما أنهينا تصوير الفيلم، غادرت بوردو وكثيراً ما كنت أحلم بالغرق في نهر الغارون، وبأصدقاء يعدمون في الشّام، ويعلّقون على الخشب. كنت أستيقظ من غفوتي، والعرق يكسوني وأنا أرتّل في السِّفر المعلوم: "عريانا خرجت من بطن أمي، وعريانا أعود إلى هناك. الرب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الرب مباركا".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها