الأربعاء 2020/04/15

آخر تحديث: 14:11 (بيروت)

عمود الطاعون

الأربعاء 2020/04/15
increase حجم الخط decrease
اجتاح الطاعون الأسود أنحاء أوروبا في منتصف القرن الرابع عشر وتسبّب في موت ما لا يقُل عن ثلث سكان القارة خلال بضع سنوات. تكرّر هذا الاجتياح بين حقبة وأخرى حتّى مطلع القرن الثامن عشر، وظلّ حياً في الذاكرة الجماعية من خلال العديد من الأنصاب الميدانية التي لا تزال ماثلة، ومنها النصب المعروف باسم "عمود الطاعون" في وسط مدينة فيينا. 


يبدو هذا النصب من بعيد أشبه بمثلث رخامي طويل تعلوه كتلة من الذهب يكلّلها نجم شعاعي. في الواقع، تمثّل هذه الكتلة مجموعة من الأطفال المجنّحين يحلّقون بين موجات من السحب، ويظهر فوق هذه الموجات، رجل ملتحٍ يجلس عن يمين شيخ جليل. يحمل الرجل صليباً طويلاً، ويحمل الشيخ كرة كبيرة، وترتفع بين هامتيهما حمامة تبسط جناحيها وسط دائرة تشكل قاعدة للنجم الشعاعي. يجسّد هذا الثالوث، أقانيم الإله الواحد بحسب العقيدة المسيحية، أي الآب والإبن والروح القدس، وذلك وفقاً لنموذج أيقونوغرافي كاثوليكي مبتكر شاع في أوروبا في الحقبة التي تلت عصر النهضة.

يحمل كلّ من هذه الأقانيم إشارات تحمل طابعاً محلياً جلياً. يحمل الآب كرة ترمز إلى الكون، وعلى معطفه يرتسم نسر ذو رأسين، رمز الإمبراطورية الرومانية الذي تبنّته الإمبراطورية الرومانية المقدسة للأمة الجرمانية. ويحمل الابن الصليب، وترتسم على معطفه شعارات هنغاريا وكرواتيا ودالماسيا والبوسنة. وتستقرّ حمامة الروح القدس وسط دائرة شمسيّة ترتسم عليها شعارات بوهيميا ولوتسيا العليا وسيليزيا السفلى. يرتفع هذا العرش الذهبي فوق هرم لولبي طويل تحيط به كوكبة من الملائكة. يظهر في هذا الهرم الرخامي تسع ملائكة وسط جوقة من الأطفال المجنّحين، وترمز هذه الكوكبة الجامعة إلى ما يُعرف كنسياً بالطغمات السمائية التسعة. وسط هذه الكوكبة، يبرز ملاك ينتصب تحت عرش الثالوث المقدّس مباشرة، حاملاً تاجاً وصولجانا من الذهب.

يرتفع هذا الهرم الرخامي اللولبي الطويل فوق قاعدة كبيرة تتألف من جزئين متساويين. وسط الجزء الأعلى، يظهر ملك يجثو على ركبته تحت الملاك الذي يحمل التاج والصولجان، رافعاً يمناه نحو صدره بإجلال. يزين هامة هذا الملك إكليل ذهبي، وينسدل عند جنبه سيف ذهبي طويل. في حركة موازية، يجثو طفل مجنّح أمام هذا الفارس المكلّل، رافعاً بين يديه تاجاً ذهبياً عظيماً يعلوه صليب. في هذا البناء التراتبي، يظهر الملك المعظّم كوسيط يسجد أمام الثالوث الإلهي المقدّس مستمدّاً منه قوّته وسُلطته. 

تشكّل الصورة التي تحتل الجزء الأسفل من القاعدة، الحلقة الأخيرة من هذا المشهد الذي يجمع بين الأرض والسماء، وتمثّل امرأة صبية تقف أمام رجل عار يتهاوى صريعاً على الأرض. ترفع هذه الصبية صليباً بيدها اليسرى، ويظهر أمامها في حركة موازية طفل مجنحّ يحلّق فوق الرجل المتهاوي أرضاً. يتطلّع الطفل باتجاه خصمه، ويطيحه بمشعل ينسدل بين يديه كرمح.
 
يختزل هذا النصب الميداني حقبة من تاريخ فيينا، ويعبّر عنها بأسلوب كلاسيكي متين. تمثّل المرأة الصبية الإيمان الكاثوليكي، ويمثّل الرجل المتهاوي عند قدميها الشر، وذلك في عهد إمبراطور هايسبورغ ليوبولد الأول الذي يحضر هنا جاثياً أمام الثالوث المقدّس الماثل في الأعالي، فوق الطغمات السمائية التسع. اجتاح الطاعون فيينا في المرحلة الأخيرة من تنقلاته مدينة فيينا في سنة 1679، وفتك بالآلاف من سكانها. في مواجهة هذا الوباء القاتل، نشطت احدى الأخويات الكاثوليكية، وعُرفت هذه الأخوية باسم الثالثوث الأقدس. عمدت هذه الجماعة الكنسية إلى إنشاء المستشفيات الخاصة، واعتمدت فيها أساليب طبية مستحدثة لعلاج المرضى. تعهدّ ليوبولد الأول بإقامة نصب يمجّد الثالوث الأقدس إثر نهاية هذه النكبة التي ألمّت بالمدينة، وعهد بهذه المهمة إلى يوهان فروهويرث، وتمثّلت باكورة هذا النصب بعمود خشبي يظهر الثالوث مع تسعة ملائكة.

في 1683، كُلّف ماتياس روكميلر بنحت نصب ضخم، فشرع بهذا العمل، ولم يكمله إذ وافته المنية بعد ثلاث سنوات أنجز خلالها التصميم وثلاثة من الملائكة. انتقل العمل إلى يوهان برنار فيشر فون أيرلاش، فأنجز قاعدة النصب، بعدها كُلّف بول سترودل بإكمال المشروع، فاستعان بالمهندس المعماري الإيطالي لودوفيكو بورناشيني الذي قام بتصميم الكوكبة الملائكية اللولبية، كما قام بتصميم صورة الإمبراطور المتعبّد في ظل هذه الكوكبة، وقام فريق من النحاتين بتنفيذ هذه التصاميم، على رأسهم توباس كراكر ويوهان بندل. هكذا اكتمل النصب في شكله النهائي، وجرى تدشينه رسمياً في 1694. تحوّل هذا النصب الكبير سريعاً إلى مثال فني، وأنجزت في السنوات التالية، أنصاباً عديدة تعتمد تأليفه بشكل أو بآخر، وذلك في مدن أخرى من الإمبراطورية.

في الخلاصة، استغرق العمل على إنشاء هذا النصب الميداني زهاء خمسة عشر عاماً. حمل التأليف في صيغته الأولى علامة انتصار الكنيسة على الشر المتمثّل بالطاعون، وحمل في صيغته النهائية علامة انتصار آخر تمثّل بدحر العثمانيين في 1683، أثر ما يُعرف بمعركة فيينا. كسرت هذه المعركة حركة تمدّد العثمانيين في أوروبا، ورفعت من شأن سلالة هايسبورغ في وسط هذه القارة. خرج ليوبولد الأول منتصرًا من الحرب التركية العظمى، وبموجب معاهدة كارلوفجة، استعاد الجزء الأكبرمن مملكة هنغاريا التي كانت تحت الحكم التركي منذ 1526. تحرك جيش التحالف المسيحي لاقتطاع بعض من المراكز الخاضعة للدولة العثمانية، وتحقّق هذا الهدف إثر هزيمة هذه الدولة في معركة فيينا.

كرّس هذا عمود الطاعون المنتصب في وسط فيينا ذكرى هذا الانتصار المزدوج، كما كرّس صورة الإمبراطور الكاثوليكي المتديّن. بحسب السيرة التاريخية، تلقّى ليوبولد في سنين المراهقة تعليمًا كنسيًا، إذ كان من المخطط له في الأصل الدخول في العمل الكنسي، لكن وفاة شقيقه الأكبر فرديناند الرابع ملك هنغاريا في 1654 جعلت منه وريثاً للعرش في العام التالي. ظلّ الإمبراطور متأثرًا بالرهبان اليسوعيين طوال حياته، وكان يمتلك معرفة لاهوتية غير مألوفة بالنسبة لملك، وقد عُرف بتديّنه الشديد وبولائه الثابت للكنيسة الكاثوليكية خلال السنوات التي حكم فيها الإمبراطورية الرومانية المقدسة للأمة الجرمانية. ونقع على عديد من اللوحات الزيتية الني تُبرز هذا الوجه، منها ثلاث زيتيات محفوظة في متحف تاريخ الفن في فيينا.

تعود الزيتية الأولى إلى 1650، وفيها يبدو ليوبولد الأول جاثياً أمام مريم العذراء ويسوع الطفل، ويظهر في الخلف ملاك يضم بساعديه كتفي الإمبراطور. وتعود الزيتية الثانية إلى 1672، وتصور قيصر الإمبراطورية الرومانية المقدسة للأمة الجرمانية وهو يدوس بقدميه تنينا يرمز لقوى الشر، وذلك في حلة كلاسيكية تستعيد رموز الفن الروماني القديم. أما الثالثة، فهي من نتاج 1690، وفيها يظهر الإمبراطور متعبّداً، وهو يتطلّع باتجاه يوسف النجار الذي يطلّ وسط جوقة من الأطفال المجنّحين، حاملاً بين يديه يسوع الطفل. وترمز هذه الصورة إلى وضع الإمبراطور لأراضي الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة تحت حماية القديس يوسف، شفيع الرهبنة اليسوعية. 
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها